علم الكلام عند الإمامية
أما فيما يخص تاريخ علم الكلام عند الإمامية، فلا بد أن نقول إن علم الكلام عند الشيعة الإمامية بدأ بصورة هامشية وعند عدة تيارات منهم ، وكان معظم الإمامية وخاصة أصحاب الحديث منهم، في مدينة قم (إيران) يخالفون علم الكلام، ويعتقدون أن وجود الإمام هو المرجع لتأويل النص وفهم القرآن والشريعة يغنيهم عن الرجوع إلى علم الكلام والاستدلالات الكلامية ،وكانوا يروون أحاديث عن الأئمة يحذرونهم من الرجوع إلى علم الكلام والجدال الديني. ومن جهة أخرى من المعروف أن هشام بن الحكم وهو من المتكلمين الأوائل في تاريخ علم الكلام كانت له علاقة جيدة مع الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) والإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) وكان في موقع التبجيل من قبل الأئمة، فقد حقق إسهامات كثيرة في علم الكلام، وله تلاميذ وأتباع عند متكلمي الإمامية مثل يونس بن عبد الرحمان (أوائل القرن الثالث الهجري)، والفضل بن شاذان (المتوفى سنة ۲۶۰ هـ) وآخرين في عصر الأئمة، وکان لهؤلاء كتب كلامية في موضوعات شتى وردود على المذاهب الكلامية الأخرى. وبطبيعة الحال، وبسبب أهمية موضوع الإمامة عند الإمامية فقد أسهموا إسهاماً كبيراً في الجدال الكلامي حول الإمامة. وفي هذا السياق، فإن من بين قدامى المتكلمين الإمامية أو من الذين نُقِل عنهم آراء كلامية في القرن الثاني الهجري لا بد أن نذكر أمثال زرارة بن أعين (المتوفى ما بين سنة ۱۴۸- ۱۵۰هـ)، وهشام بن سالم (النصف الثاني من القرن الثاني الهجري)، ومؤمن الطاق (منتصف القرن الثاني الهجري).
والجدير بالذكر أن الإمامية كانوا يُتهمون بأنهم كانوا على مذاهب التشبيه، ويُتهم فريق منهم بأنهم على مذهب الجبر. وبسبب ضياع التراث الكلامي الإمامي المبكر، لا يمكن لنا أن نتأكد عن مدى صحة هذه الاتهامات، ولكن هناك قرائن تؤكد على الأقل مخالفة تيارات من الإمامية للمنظومة التنزيهية للمعتزلة أو الجهمية. ويمكن أن تكون الخلافات مع المعتزلة / الجهمية من قبل أمثال هشام بن الحكم وآخرين مثله، في مسائل حول ذات الله وصفاته، كانت وراء اتهامهم بالتشبيه بصورة غير دقيقة. وهناك قرائن أخرى تؤكد وجود أفكار تشبيهية عند بعض تيارات الإمامية في القرن الثالث الهجري أيضاً. أما مع مرور الزمن، وفي أواخر القرن الثالث، وتزامناً مع تداعيات الغيبة للإمام الثاني عشر عند الإمامية، فقد شهدت الساحة الإمامية تغيراً نحو الانفتاح على الفكر المعتزلي؛ فالمعروف أن بعض المفكرين الشيعة الإمامية في هذا الوقت قد تعرّفوا علی المعتزلة أو انتقلوا من الاعتزال إلى عقيدة الإمامة وصاروا إمامية. ومن أهم متكلمي الإمامية في هذا الوقت مِِّمن كان لهم تأثير قوي في المجتمع الإمامي وخاصة في بغداد نعرف متكلمي بني نوبخت، أمثال أبي سهل النوبختي (المتوفى سنة ۳۱۱ هـ) والحسن بن موسى النوبختي (المتوفى بعد سنة ۳۰۰ هـ) الذين كانوا من أصل إيراني، وكانوا قريبين إلى المعتزلة في كثير من المسائل الاعتقادية كما كانت لهم صلات بهم.
أما في القرن الرابع فقد امتدت هذه الحركة الكلامية التنزيهية، إما بشكلٍ غير كلامي، وفي سياق مخاصم لعلم الكلام انطلاقاً من تراث حديثي إمامي يؤكد عقيدة التنزيه مثل ما نراه عند محمد بن يعقوب الكليني (المتوفى سنة ۳۲۹ هـ)، مؤلف كتاب الكافي، أو عند محمد بن علي بن بابويه القمي (المتوفى سنة ۳۸۱ هـ) وهما وإن كانا يتمسكان بطريقة أصحاب الحديث الإمامي وينكران طرق المتكلمين، لكنهما يتمسكان بالعقيدة التنزيهية في التوحيد والعدل بأفكار قريبة إلى الاعتزال في كتبهما؛ مستفيدين من أحاديث أئمة الشيعة في ذلك. ومن جهة أخرى، نرى في هذا القرن عند الإمامية أيضاً حركة كلامية قوية مستفيدة من التراث الكلامي لمختلف المدارس الإمامية، ومستفيدة أيضاً من التتلمذ عند متكلمي الاعتزال في مدن أهمها بغداد، وبذلك دخلوا في منطلق جديد في تاريخ علم الكلام مقدماً عطاءً فكرياً هاماً؛ فنرى الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (المتوفى سنة ۴۱۳ هـ) الذي درس الكلام عند بعض متكلمي الإمامية، كما درس عند المعتزلة وأسّس مدرسة جديدة في علم الكلام الشيعي الإمامي، وتابعه في ذلك تلميذه الشهير الشريف المرتضى (المتوفى سنة ۴۳۶ هـ)، وإن كانا يختلفان في بعض المسائل الكلامية؛ وكان الشريف المرتضى يقترب أكثر إلى الكلام المعتزلي البصري، بينما كان أستاذه مائلاً بشكلٍ كبير إلى مدرسة بغداد الاعتزالية، ومدرسة الشيخ المفيد، ورغم صلتها بالكلام المعتزلي نرى أنه كانت هناك خلافات كبيرة بينهما، وخاصة في المسائل المذهبية وفي "جليل الكلام" حسب المصطلح، وفي مسائل الإمامة بطبيعة الحال. وهذه المدرسة قد امتدّت بمساعي تلميذ المرتضى الشهير، الشيخ أبي جعفر الطوسي (المتوفى سنة ۴۶۰ هـ).
أما في القرن السادس، وقبل عصر الخواجة نصير الدين الطوسي (المتوفي سنة ۶۷۲ هـ) فقد بدأ في الأوساط الكلامية للشيعة الإمامية التوجه إلى مدرسة أبي الحسين البصري ومحمود الملاحمي الكلامية؛ التي تأثرت بدورها بالفلسفة في بعض المسائل وبتأثرهم وقبولهم لهذه المدرسة الكلامية، فقد اختلفوا في بعض الآراء مع مدرسة السيد المرتضى الكلامية. ولكن قبول آراء أبي الحسين البصري عند الإمامية، وكما عند الفخر الرازي مهّد الطريق إلى التأثر بالنهج الفلسفي في أوساط المتكلمين بشکلٍ ما. وامتدّ هذا التوجه إلى أبي الحسين في القرون التالية؛ وبعد ظهور الخواجة نصير الدين الطوسي وميوله الفلسفية، فقد دخلت الفلسفة الإسلامية وخاصة اتجاه ابن سينا في مدرسة الكلام الإمامي أيضاً بشکل وبآخر. وفي الواقع، كان ظهور الخواجة منعطفاً مهماً في تاريخ علم الكلام، ليس فقط في علم الكلام الشيعي، بل في علم الكلام الإسلامي برمته، بحيث تأثروا به جميعاً.
وكان قسم كبير من اهتمامات المتكلمين الشيعة يرتبط بموضوع الإمامة؛ فمنها ما كتبه الشيخ المفيد دفاعاً عن نظرية الإمامة، أو ما كتبه الشريف المرتضى أو تلميذه الشيخ الطوسي؛ ولكن ومنذ عصر العلامة الحلي (المتوفى سنة ۷۲۶ هـ) وباهتمامه البالغ بموضوع الإمامة ردّاً على ابن تيمية، وتثبيتاً لمذهب الشيعة في عصر الإيلخانيين، فإن كتابة كتب كبيرة عن الإمامة وانطلاقاً من الاتجاه الكلامي، صار الشغل الشاغل لكثير من العلماء والفقهاء والمتكلمين الشيعة، وقد كتبوا في هذا الموضوع اقتداء بالشيخ المفيد والسيد المرتضى والعلامة الحلي؛ ويمكن أن نذكر من بينهم علي بن يونس البياضي (المتوفى سنة ۸۷۷ هـ) صاحب كتاب "الصراط المستقيم"، والقاضي نور الله المرعشي (المتوفي سنة ۱۰۱۹ هـ) صاحب كتاب "إحقاق الحق".

خصوم علم الكلام
قبل الحديث عن الخصوم، ينبغي أولاً أن نذكر إجمالاً الخلاف الذي حصل في تاريخ العقيدة الدينية الإسلامية حول ضرورة علم الكلام وعدم ضرورته؛ فقد دافع المعتزلة في بدء الأمر عن علم الكلام و"النظر" ودافع أيضاً عنه الأشاعرة فيما بعد. أما المحدثون فقد رأوا عدم جدوى الجدل الكلامي، ورفضوا مخالفة الشريعة والسنة التي حصلت لأجل ذلک من قبل المعتزلة؛ بحجة ضرورة توافق العقيدة مع الاستدلالات العقلية الكلامية. ولذلك في حين أن المحدثين وأهل الحديث والأثر بسبب رؤيتهم في الفقه والعقيدة كانوا يُسمّون بأصحاب الحديث، كان المتكلمون وخاصة متكلمي الاعتزال يُعرفون بأنهم أهل النظر والاستدلال، وأنهم ليسوا بأصحاب النقل / الحديث، وما كان يُقصد من هذا، التقابل بين العقل والنقل في بدء الأمر، ولكن في القرون التالية ومع دخول الفلاسفة على الخط دار نقاش حول العقل والنقل في الإسلام. وفي هذا المجال كتب ابن تيمية كتاباً كبيراً يسمى كتاب "درء تعارض العقل والنقل" (أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)؛ في حين أنه عادة في العقائد کان يٌقصد بالعقل الطريقة الاستدلالية الكلامية (القياس/النظر)؛ وهي قياس الغائب على الشاهد؛ أما في الفقه فالمقصود بالعقل کان هو العقل الفقهي داخل أطر الأحكام الفقهية، وتحدد داخل أسس المرجعية / الحجية الفقهية.

الحنابلة
وفي إطار المعارضة مع المتكلمين فلا بد أن نذكر أولاً الحنابلة وأصحاب الحديث؛ فإنهم اعتادوا أن ينشروا عقائدهم المذهبية في صورة كتيبات / رسائل عقدية، مستفيدين من ألفاظ الأحاديث والآثار لتقديم عقائدهم حول الله وصفاته وحول التاريخ المقدس والنبوة والإمامة والخلافة، وعن خلافاتهم مع الجهمية / المعتزلة (والرافضة) وسائر "أهل الأهواء" حسب مصطلحهم؛ فإن التراث الحديثي الذي كان ينشره المحدّثون كان مؤاتياً مع الرؤية الدينية البسيطة التي تفسّر الشريعة وعلاقة الله بالإنسان في دائرة من المفهوم الشخصي عن الله وعن صفاته والذي يتناسب مع الرؤية التشبيهية؛ ولذلك فمن الطبيعي أن لا تتناسب الأحاديث التي كان المحدثون يروونها مع الرؤية التنزيهية التجريدية /الفلسفية التي يتبناها الجهمية/ المعتزلة؛ في الوقت الذي لا يثق المتكلمون بالأحاديث التي يروونها المحدّثون؛ ولذلك نرى أن المتكلمين يناقشون في هذه الأحاديث ورواتها؛ فمثلاً، كتب أبو القاسم البلخي كتاب قبول الأخبار حول هذا الموضوع.
وكان المحدّثون والحنابلة ينشرون ويكتبون كتباً كبيرة أو صغيرة في أصول "السنة" وينقلون في كتبهم هذه كل الأحاديث التي كانت تتعلق بالمسائل العقدية ردّاً على أصحاب الفرق والبدع. وتتعلق إشكاليتهم الأساسية بالسنة/ البدعة وعقيدة "الجماعة". واستمر عندهم سنّة الإقتداء بالإمام أحمد بن حنبل ومن کان قبله من مشايخ أصحاب الحديث الی القرون المتأخرة، وإلى اليوم عند الحنابلة والسلفيين والوهابية. ولكن، ومنذ القرن الخامس الهجري كانت هناك حركة لتدوين كتب عقائدية بصورة أكثر نظاماً، وبطريقة الكتب الكلامية وربما أحياناً بطريقة جدلية ترد عقائد فرق البدع . ومن أمثلة ذلك، كتاب "المعتمد" لأبي يعلى الحنبلي (المتوفى سنة ۴۵۸ هـ)، أو كتاب "الإيضاح" لابن الزاغوني (المتوفى سنة ۵۲۷ هـ) في هذا الاتجاه؛ وكذلك لابدّ أن نذکر أيضاً ابن عقيل الحنبلي (المتوفى سنة ۵۱۳ هـ) وأبا الفرج ابن الجوزي (المتوفى سنة ۵۹۷ هـ)، والذي تأثر بالأخير من ضمن حنابلة آخرين الذين كانوا أكثر اعتدالاً من فئة أخرى من الحنابلة. وكان لابن تيمية ولتلميذه ابن قيم الجوزية (المتوفى سنة ۷۵۱ هـ) توجه في انتقاد المتكلمين ومناهجهم وعقائدهم. وبطبيعة الحال، كان تبادل الآراء متحققاً بين الحنابلة وبين الآخرين مثل الأشاعرة وأحياناً المعتزلة أنفسهم. أما ابن تيمية فهو منظّر كبير لفكر أصحاب الحديث العقائدية، فقد كان ذا معرفة جيدة بأفكار المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة أيضاً، أو على الأقل كان يعرف جيداً مؤلفات وكتب هؤلاء وينقل عنهم كثيراً ويردّ عليهم ردّاً قاسياً؛ فهو يردّ دائماً في كتبه على المعتزلة/الجهمية وعلى الأشاعرة والماتريدية وعلى الشيعة الإمامية/الإسماعيلية، ويردّ على كبار مؤلفيهم ويردّ أيضاً على الفلسفة والمنطق وكبار الفلاسفة في الإسلام انطلاقاً من فهمه لأصول أفكارهم، وبصورة قاسية جداً ولكنه أحياناً كان يأخذ بأفكارهم.

شرعنة علم الكلام
ومع ظهور وانتشار أهل السنة والجماعة، وبعد تطورات كثيرة بدءً من القرن الثاني وحتى القرن الخامس، وبتأييد من السلطة السياسية ممثلة بالسلاجقة، تحول علم الكلام، وبفضل انتشار الأشعرية والماتريدية تمثيلاً لمنظومة "أهل السنة والجماعة" العقائدية، إلى علم استدلالي للدفاع عن عقيدة السنة على الأقل في كثير من الأحيان وعند الكثيرين؛ ما عدا أكثرية الحنابلة والمنتمين إليهم بطبيعة الحال؛ وهذا الأمر ظهر خاصة بعد أبي حامد محمد الغزالي (المتوفى سنة ۵۰۵ هـ) الذي سعى لتقديم صورة معقولة ومقبولة لأهل السنة في مواجهة تحديات الشيعة والإسماعيلية والفلاسفة، ويعتبر الغزالي أحد مؤسّسي المنظومة الفكرية لأهل السنة والجماعة، وبجهوده تأسّست واستقرت شرعية علم الكلام بين صفوف أهل السنة والجماعة. في حين أنه يختلف الأمر بالنسبة إلى الشيعة فإنهم وكما قلنا سابقاً، إن اختلفوا في أول الأمر وحتى أواسط القرن الرابع الهجري في مدى شرعية علم الكلام والجدل الكلامي، فكان المؤيدون لهذا العلم عندهم أقلية في مواجهة أصحاب الحديث والأخبار، ولكن وبمرور الزمن أخذ علم الکلام عندهم طابعاً متماسكاً مع المنظومة العقائدية الشيعية، وخاصة بسبب أهمية مباحث الإمامة عند الشيعة الإمامية، وضرورة الرد على المخالفين في هذا الموضوع؛ ولذلك انتشر علم الكلام واستمر وتحول إلى أحد علوم الشيعة الأساسية خاصة مع جهود الخواجة نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي. لكن هذا الأمر لا يعني البتة عدم وجود نزعة الرفض التام أو شبه التام لعلم الكلام عند تيارات من الشيعة الإمامية في القرون التالية ومنها في عصر الصفويين (الحكومة ما بين ۹۰۷-۱۱۳۵ هـ) خاصة عند المحدثين والأخبارية مثل محمد أمين الاسترابادي (المتوفى سنة ۱۰۳۶ هـ).
سه شنبه ۱۹ آذر ۱۳۸۷ ساعت ۱۸:۱۴