علم الكلام السنّي في أوائل القرن الثالث
بناءً لما سبق ونظراً لتشديد حركة الترجمة وتعرف المتكلمين بصورة أكثر وضوحاً على الأبحاث الفلسفية والطبيعية، فإن حركة علم الكلام في شقيه المعتزلي والمرجئي تحركت بصورة أكثر فعالية؛ بحيث إنه خلال النصف الأول من القرن الثالث الهجري، ظهرت في مدن مختلفة وخاصة في بغداد والبصرة مدارس كلامية متنوعة، وبشكلٍ بارز منطلقة إما من المعتزلة؛ وإما من المرجئة / الجهمية – القريبين فقهياً إلى أبي حنيفة، وهم کانوا أحياناً فقهاء أحناف ، كما أن للشيعة أيضاً متكلمين في هذه الحقبة بالذات. وفي هذه الحقبة وانطلاقاً من جذور في القرن الثاني الهجري ظهرت فئة من المتكلمين كانوا يدعمون السنة ولهم صلة بأئمة الفقه / السنة كمحمد بن ادريس الشافعي (المتوفي سنة ۲۰۴ هـ) خاصة؛ وکانوا يعارضون المرجئة / الجهمية والمعتزلة في نفس الوقت ولكن كانت هناك تاثيرات من قبل المعتزلة والمرجئة / الجهمية ايضاً عليهم، وكانوا يتحركون في المناخ الكلامي، وتحت تاثير منهم، وإن من حيث العقيدة كانوا قريبين إلى أصحاب "السنة" و "الحديث" و"التقليد الفقهي" وخصوصاً فقه الشافعي، ويمكن أن نعتبرهم "متكلمي أصحاب الحديث" من أمثال ابن كلاب (المتوفي سنة ۲۴۰ هـ) والحارث المحاسبي (المتوفى سنة ۲۴۳ هـ) وأبي العباس القلانسي (في القرن الثالث الهجري) والذين كانوا هم أنفسهم أسلاف ابي الحسن الأشعري (المتوفى سنة ۳۲۴ هـ)، مؤسس الأشاعرة، وكان هؤلاء المتكلمون هم أيضاً موضع اتهام من قبل أصحاب الحديث في بغداد وعلى رأسهم أحمد بن حنبل (المتوفى سنة ۲۴۱ هـ) وإن كانت عقائدهم في كثير من الأمور المذهبية قريبة منهم، ولكن متكلمي السنة هؤلاء ، وخلافاً لأصحاب الحديث السني اعتمدوا الجدل الكلامي والطرق الكلامية المعتمدة عند جمهور المتكلمين أولاً، وثانياً مبدأ التأويل، ولديهم رؤية مختلفة في مسائل كلامية / عقائدية؛ مثل وجود الله وذاته وصفاته وعلاقة الذات بالصفات، ومسائل تتعلق بحدوث الأفعال، ومدى فاعلية الله وأفعال الإنسان ومسألة المخلوق، كما في مسائل علاقة الله بالإنسان والشريعة وسلطتها؛ وفي مسألة خلق القرآن التي كانت موصع جدل في أوائل القرن الثالث بين المحدثين والدولة ومؤيديهم من الجهمية، وبعض المعتزلة، كان ابن كلاب يعتقد خلافاً للمحدثين وفئة أصحاب الحديث السني ب" الكلام النفسي" القديم.

أصحاب الحديث ومشكلة التأويل
وأثناء النزاع الذي حصل بين الدولة العباسية في عصر الخلفاء المأمون والمعتصم (الخلافة ما بين ۲۱۸-۲۲۷ هـ) والواثق (الخلافة ما بين ۲۲۷-۲۳۲ هـ) وبين جماعة أصحاب الحديث والفقه الحديثي، الذين كانت معارضتهم مع تطلعات وآمال السلطة السياسية من نوع مذهبي / سياسي، ظهرت قدرة هذه الفئة الأخيرة، مستمدة من طبقة العوّام في بغداد وغيرها من البلدان، بقيادة أشخاص مثل أحمد بن حنبل، وكانت لديهم منظومة مختلفة عقائدياً بالنسبة لكثير من الأمور، وخاصة السلطة الدينية واستلزاماتها؛ ومنها مسألة التأويل وعدم الخوض فيها وفي الجدل الكلامي أيضاً، وكانوا على اختلاف كبير مع المعتزلة والجهمية وأصحاب الرأي / فقهاء الأحناف؛ وكما قلنا سابقاً: كانوا في قضية المحنة يؤيدون اعتقاد عدم خلق القرآن، خلافاً لهؤلاء المتكلمين والدولة نفسها؛ ولذلك اضطهدوا من قبل الدولة، كما هو معروف تاريخياً، ولكن بعد ذلك، تشكلت هذه الفئة، وتضخمت باسم عقيدة السلف وشرعيتها، وأخذوا ينتشرون بعد ذلك، وحصل لديهم تطور خاص في علاقتهم مع الوضع السياسي للسلطات العباسية والحكومات السلطانية فيما بعد. وفي المناقشات التي كانت تجري بين المتكلمين المعتزلة / الجهمية من جهة وبين المحدثين في أوائل القرن الثالث الهجري وفي زمن المحنة وبعدها، كانت مسألة نقد الحديث موضع اهتمام المتكلمين؛ لأن المحدثين كانوا يستندون إلى مرجعية الحديث/ السنة في نقد ودحض آراء المتكلمين؛ ولهذا السبب، فإن المتكلمين اضطروا لنقد الحديث، والبحث عن شروط قبول الأخبار والأحاديث.
وسرعان ما يستدل الطرفان يعني أصحابی التنزيه والتشبيه بشكلٍ خاص والمتكلمون وخصومهم وفي سائر الموضوعات، بشكلٍ عام، بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية لأجل إثبات مدعياتهم واعتقاداتهم؛ فمثلاً بالنسبة للقرآن هناك آيات تدل على التشبيه في مسألة الصفات الإلهية وفاعلية ذات الله في العالم وهناك آيات يمكن أن يستدل بها لإثبات الرؤية التنزيهية؛ ولذلك بدأ النقاش حول هذه الآيات وطريقة تفسيرها، وكان النقاش بدأ حول إشكالية "التأويل" والمرجعية فيه. ومن جملة الموضوعات الكلامية التي أيضاًً كانت موضع النقاش، ولها صلة بفكرة التأويل، مسألة الجبر والاختيار ورؤية القرآن تجاه ذلك، فإن الطرفين من مؤيدي الاختيار أو نظرية الجبر، كانوا يستندون إلى آيات القرآن لدعم عقيدتهم واتجاههم الفكري. ومن المعروف أنه منذ أواخر القرن الأول الهجري جرت محاولات تفسيرية من قبل الصحابة والتابعين فيما بعد، وتأسست مدارس في التفسير بدأت في القرن نفسه، وتشخّصت وتميّزت في القرن التالي وكان أحد طرق البحث حول القرآن، قد تشكّل داخل الإطار اللغوي في القرآن والاستشهاد بلغة العرب، وبمعانيها كمحاولة تفسيرية. وکان هذا في موازاة تطور الأدب العربي الذي تحوّل عموماً لأسباب دينية، ولأجل الحاجات في فهم وتفسير القرآن والشريعة/ الفقه وفي إطار تشكيل العلوم الإسلامية. ولذلك كان لتحولات علم اللغة من حيث تأثيرات الحضارة الإسلامية وبنيتها الثقافية، وتأثيرات الثقافات والأديان / المذاهب الجديدة ومعتقدات الأمم التي اعتنقت الإسلام على هذا العلم، تأثير بالغ الأهمية في كيفية فهم القرآن وآيات التنزيه /التشبيه؛ ولذلك، فإن كل المفاهيم القرآنية بما فيها من مفاهيم للأسماء وصفات الله تأثرت تحت وطأة التحول الثقافي – الحضاري هذه.
من هنا جرى مناقشات لتفسير لغات القرآن، والبحث في الوجوه والنظائر والمعاني المختلفة لكلماته منذ مقاتل بن سليمان، الذي كتب عدة كتب تفسيرية، وحتی زمن المناقشات التي جرت بين المتكلمين من جهة، والمحدثين من جهة أخرى؛ فمثلاً هناك أعمال ابن قتيبة (المتوفى سنة ۲۷۶ هـ) في هذا المجال، وأعمال قرآنية ككتب المجازات والمعاني للقرآن لمؤلفي الاعتزال أو لخصومهم في القرن الثالث الهجري. وهناك أيضاً اهتمام تفسيري لدى كبار متكلمي الاعتزال أمثال أبي علي الجبائي (المتوفي سنة ۳۰۳ هـ)، وأبي القاسم البلخي (المتوفى سنة ۳۱۹ هـ). وهناك أيضاً أدب حول الآيات المتشابهات؛ والمعتزلة کان لديهم اهتمام بهذا الموضوع خاصة، ولدينا أمثلة لها کالقاضي عبد الجبار الهمداني (المتوفى سنة ۴۱۵ هـ)، ومن الشيعة كالشريف الرضي (المتوفى سنة ۴۰۶ هـ) وآخرين. فعلى أساس منطلقات لغوية، والبحث عن دلالة الآيات والأحاديث حول الموضوعات الكلامية، بدأ البحث عن التأويل في مجالي القرآن والحديث ومدى مشروعية هذا التأويل، والنقاش حول المرجعية في التأويل. وبما أن المتكلمين في نقاشاتهم مع المخالفين، كانوا يستفيدون من الأدلة الكلامية الجدلية النظرية في تفنيد معتقدات ومزاعم المخالفين، وفي رد تفسيراتهم للآيات والأحاديث، فإنه دار نقاش حول مدى شرعية اللجوء إلى الأدلة الكلامية الجدلية / العقلية، في تفسير القرآن وتأويله؛ وهل هناك جواز شرعي وديني للتأويل على هذه الأصول؟ ولذلك كان المحدثون وأصحاب الحديث بدأوا في كتابة كتب في الرد على التأويل وأصحابه، وفي الرد على اللجوء إلى علم الكلام والانخراط فيه، وكانوا يوصون بالاكتفاء بالنصوص دون التأويل والسؤال، وكلها تحت مقولة "الكيفية مجهولة والسؤال بدعة"؛ واعتبروا التأويل أساساً لكل "بدعة". ولذلك كان المحدثون يتهمون المتكلمين بأنهم من "أهل البدعة" ؛ ولكن المتكلمين بناءً لمنطلقاتهم الفكرية / الكلامية كانوا مضطرين للجوء إلى التأويل في الآيات والأحاديث واتهموا خصومهم بأنهم أصحاب الرؤية الساذجة القشرية (وأنهم من النوابت الحشوية) الذين يعتمدون الظاهر دون الباطن واللفظ دون المعنى. فهولاء كانوا يعتقدون أن التفکير في ذات الله وصفاته ليس من صلاحية الإنسان، ولا بدّ من عدم الخوض في تلك المسائل، فإن من الواجب على المؤمن أن يقبل الآيات والأحاديث في موضوع الأسماء والصفات الإلهية وغيرها ولا يتصرف فيها بعقلية بشرية، فالإيمان واتّباع "السّنة" هو القبول بها، من دون الخوض في تفاصيلها وكيفياتها، فلا دخل "للنظر" في تلك المسائل التي يكون المرجع الوحيد فيها السنة وعقيدة السلف الصالح فقط.

المعتزلة ما بين القرنين الثالث والرابع
إمتدّ علم الكلام المعتزلي، في شقّيه البصري والبغدادي طوال القرن الثالث الهجري وقد سمي المعتزلة بأهل العدل والتوحيد؛ وقدموا كثيراً في مجال تبيين "الأصول الخمسة"، والمباحث الكلامية حول موضوعات شتى، وخاصة حول العدل والتوحيد، والنظريات الأخلاقية والأصولية / الكلامية عندهم، حتى نصل إلى أواخر هذا القرن حيث برز تحولٌ جديدٌ في علم الكلام المعتزلي في البصرة وعسكر مُكرم (الأهواز في إيران) بظهور أبي علي الجبائي، ونشاطه الكبير في تقديم عطاء فكري كلامي كبير في علم الكلام؛ متخذاً آراء شيخه أبي يعقوب الشحّام، ومتّبعاً الطريقة الكلامية لأبي الهذيل العلاف، وهكذا تحوّل الاعتزال بيد الجبائي وبيد ابنه وتلميذه الشهير أبي هاشم الجبائي (المتوفى سنة ۳۲۱ هـ) بابتكاراتهما وآرائهما الجديدة في مسائل مثل الصفات الإلهية، وصفات العلم والإرادة ونظرية الأحوال ومسألة شيئية المعدوم وغيرها من المسائل الكلامية. وانطلاقاً من خلاف أبي هاشم مع أبيه، ترأس أبو هاشم مدرسة جديدة في الاعتزال، وأظهر آراء جديدة وكانت تعرف مدرسته فيما بعد بالمدرسة البصرية البهشمية.
وأما بالنسبة لمدرستي البصرة وبغداد، يلاحظ أن بينهما خلافا كلاميا كبيرا، وخاصة بين أبي القاسم البلخي الكعبي من مدرسة بغداد وأبي هاشم الجبائي من مدرسة البصرة وقد امتد هذا الخلاف؛ ولذلك فإن أبا رشيد النيسابوري (المتوفى بعد سنة ۴۱۵ هـ) كتب كتاباً بعنوان المسائل الخلافية بين البصريين والبغداديين؛ تناول فيه المسائل الخلافية بين المدرستين، وخاصة في مسائل اللطيف من علم الكلام والكلام الفلسفي. وكان كبار المعتزلة كلهم من أتباع مدرسة أبي هاشم الجبائي من أمثال أبي عبد الله البصري (المتوفى سنة ۳۶۹ هـ)، وأبي اسحاق بن عياش (القرن الرابع الهجري)، وتلميذهما المشهور القاضي عبد الجبار الهمداني . وقد شهد النصف الثاني من القرن الرابع والربع الأول من القرن الخامس، نهضة علمية ونشاطاً كبيراً عند المعتزلة، خاصة في بغداد والريّ، بسبب الدعم المادي والمعنوي من قبل البويهيين ووزرائهم ورجالهم، خاصة الصاحب بن عباد (المتوفى سنة ۳۸۵ هـ) الوزير البويهي الشهير، الذي كان عالماً وأديباً، وذا إلمام وصلة بعلم الكلام المعتزلي. وفي هذة الفترة كان للزيدية والشيعة الإمامية والمعتزلة حرية كبيرة ودعم في التحرك نحو الانتشار وعمليتي التصنيف والتدريس.

مدرسة المعتزلة المتأخرة
ومع أبي الحسين البصري (المتوفى سنة ۴۳۶ هـ)، تلميذ القاضي عبد الجبار تعرّف المعتزلة على أفكار الفلاسفة بصورة أدق، وقد اعتنق أبو الحسين بعض أصولهم، وخالف في مسائل وقضايا مهمة طريقة شيوخه، أتباع المدرسة البهشمية؛ ولذلك وبواسطة أبي الحسين، فقد ظهرت مدرسة جديدة في علم الكلام المعتزلي عُرفت بمدرسة أبي الحسين البصري. والمعتزلة المتأخرون كانوا عموماً من أتباع هذه المدرسة مثل محمود ابن الملاحمي الخوارزمي (المتوفى سنة ۵۳۶ هـ). وقد كان لأبي الحسين تأثير مهم في علم الكلام، وحتى على الكلام غير المعتزلي، ومنها تأثيره على علم الكلام الشيعي الإمامي وعلى الكلام السني الأشعري (ممثلاً بفخر الدين الرازي، المتوفى سنة ۶۰۶ هـ)، وحتى على تقي الدين ابن تيمية (المتوفى سنة ۷۲۸ هـ) كممثل للعقيدة السنية المحافظة على فكرة السلف والذي اختلف اختلافاً عميقاً مع الأشاعرة، وکان يذكر أبا الحسين وأتباعه وينقل عنهم کثيراً في کتبه وفتاويه. فأما علم الكلام المعتزلي الزيدي، فإنه ومنذ القرن السابع الهجري تأثر تدريجياً بمدرسة أبي الحسين البصري الكلامية.
يكشنبه ۱۴ مهر ۱۳۸۷ ساعت ۲۰:۵۵