حركة الترجمة
ثمة تحوّل آخر في البلاط العباسي ساعد في التحرك من جديد في هذا المجال، وهو اهتمام الخلافة العباسية في نقل وانتقال العلوم اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية، ومن المعروف وجود حركة نشيطة في العراق وبعض المناطق الأخرى آنذاك، ومنها المناطق التي كانت تحتضن الوجود والنشاط الديني المسيحي، كالمناطق المفتوحة من البيزنطة التي يهمّها العلوم والفلسفة اليونانية، وحتى بعد انتشار الإسلام فيها. الأمر الذي ساعد المسلمين لأن يحصلوا على علوم وحضارة جديدة، أطلقوا عليها فيما بعد اسم علوم الأوائل. إضافة إلى هذا، كان هناك حركة علمية تخصّ علوم الرياضيات والهيئة والطب، انطلاقاً من حركة ترجمة الديوان إلى العربية منذ أواخر القرن الأول الهجري، وخاصة مع اهتمام الدولة العباسية بنقل العلوم إلى اللغة العربية وخاصة ظهور رجال السياسة المعروفين باهتمامهم بالعلوم والثقافة، مثل الأوساط الإيرانيين المرتبطين ببلاط الخليفة المنصور العباسي (الخلافة بين 136-158 هـ)، وأيضاً الوزراء من البرامكة، وآل سهل، وغيرهم من الكتاب والوزراء الإيرانيين في الدولة العباسية، الأمر الذي أوجد مناخاً مساعداً لتعرف المتكلمين على تجارب وعلوم تتناسب وعملهم وثقافتهم ؛ وقد كان هذا من أسباب تغيير الوعي الديني إلى حدٍ ما عند هذه الفئات المثقفة، والتي كانت تعتبر نفسها طبقة الخواص في مقابل فئات العوامّ. ومنذ أواخر القرن الثاني استفاد المتكلمون من المعتزلة والمرجئة والشيعة من هذه الأجواء، والأساليب ومن التراث الفلسفي لإعطاء زخم جديد لأبحاثهم.

مسألة وجود الله وصفاته
ومنذ أواخر القرن الثاني بدأت نهضة فكرية وفلسفية بين المسلمين تتزامن مع نهضة ترجمة الكتب والتراث اليوناني والسرياني والفارسي والهندي إلى العربية، تتكلم وتناقش في مسائل كانت تتعلق بمسألة وجود الله، ومسألة الوحدة الإلهية، وعلاقة عالم المخلوقات بهذه الوحدة؛ وفي هذا الظرف بالذات، كان من الطبيعي أن تناقش مسألة صفات الله، وكيفية فاعلية الله في العالم، وبطبيعة الحال، كان المسلمون تأملوا في آيات القرآن والصفات التي يصف القرآن بها الله، ونحن نعرف أن صورة الله في القرآن كما في التقليد التوراتي – الإنجيلي هي صورة عن إله / شخص إلى حدٍ ما بصورة أو بأخرى، وله سلطة شخصية، وله علاقة مباشرة مع خلقه، وكانت هذه الصورة منطلقاً أساسياً لفكرة الشريعة والقانون الإلهي وفيما ترتبط بالمرجعية الدينية. والخطاب القرآني کان يستلزم تصوراً من هذا النوع عن الله؛ ولذلك كان من الطبيعي أن تشكل ذهنية المسلمين في هذا العصر المبكر من الإسلام عن الله بهذه الصورة؛ فالمناخ الديني في الإسلام، وخاصة آيات القرآن الكريم كان يجرّ المتكلمين إلى اثبات صفات لله بالمعنى الحقيقي، وأن الله هو ذات وصفات، لكن وبتأثير من الفلسفات والأفكار اليونانية والدينية الأخرى الموجودة في بلاد الإسلام اتجهت بعض الأفكار نحو صورة تجريدية عن الله، وفيما نعلم فإن الجهم بن صفوان (المتوفى سنة 128 هـ) في خراسان کان من اوائل الذين ذهبوا إلى هذا الاتجاه التنزيهي لله، فكان ينفي عن الله كل صفة تشبهه إلى خلقه، حتى أنه نفى الشيئية عن الله، وكان الجهم وأصحابه المعروفون بالجهمية، يعتقدون بتوحيد تنزيهي مطلق، ويرون أن علاقة الإنسان والمخلوقات بالله علاقة لا تحكمها علاقات شخصية وبشرية غير لائقة بالذات الإلهية فلابدّ من التأويل للآيات القرآنية التي تخالف ظاهرها هذا الاعتقاد. وبطبيعة الحال فقد كان لهذه الأفكار نتائج خطيرة جداً على صورة المسلمين عن دينهم وشريعتهم، وعن كل ما تأسس حتى ذلك الوقت، من سلطة دينية أو سياسية؛ ولذلك حصلت ردات فعل تجاه هذه الأفكار من قبل الاتجاه العام الإسلامي، كانت تتواصل فيما بعد بشدة. وكانت عقائد المسيحيين حول المسيح وكيفية تجسد الذات الإلهية وآيات القرآن حول ذلك تساعد في بلورة البحث عن صفات الله، والبحث عن التنزيه والتشبيه بصورة جذرية، وذات معنى ديني كبير.
فأما في مقابل الجهم بن صفوان فمن المعروف أن هناك مدرسة أخرى يمثلها مقاتل بن سليمان (المتوفي سنة 150 هـ) الذي كان يعتقد بالتشبيه وإعطاء صورة إنسانية لله، وإن احتمل أنه كان يعتقد هذا المذهب بسبب رؤيته الخاصة إلى الله وعلاقة الله بالإنسان، وتفسيره للشريعة ودورها في تكوين الشخصية الدينية للإنسان في العالم. وكان هشام بن الحكم (المتوفى سنة 179 هـ) من الذين لعبوا دوراً بارزاً في تحول علم الكلام، إما من جهة نظرته وعطائه الفكري في موضوعات كانت محط نظر المتكلمين مثله مثل الجهم بن صفوان وسليمان بن جرير (في القرن الثاني الهجري) وغيرهما؛ ومنها نظرته حول ذات وصفات الله، وكذلک صفة العلم، وأيضاً مسألة تعريف الجسم وماهيته؛ وإما من حيث تعرفه على التراث القديم، كتراث الزنادقة والثنوية وأصحاب المذاهب المختلفة، وأيضاً تعرفه وإن بصورة غير مباشرة على الفلسفة اليونانية. وكان لهشام مناظرات مع أصحاب المذاهب المختلفة وسائر المتكلمين، وله صلة مع مجالس البحث العلمي للبرامكة، وله تأثيرات على المعتزلة مثل أبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام.
وكانت المباحث الكلامية حول إثبات الصانع وحدوث العالم تنطلق عند المتكلمين في محاولة لرد العقائد الثنوية والإلحادية للزنادقة والملحدين، ولذلك اضطر المتكلمون، وخاصة في البصرة، وبعدها في بغداد في محاولة الرد عليهم بالبدء بالتفكير حول طبيعة المخلوق، وفلسفة الطبيعة، والتنظير حول معنى الجسم وماهيته، وأجزائه وأعراضه وصفاته، ومسألة كيفية الحدوث، وكل ما عرف فيما بعد بدقيق الكلام (أو اللطيف من علم الكلام)؛ وكانت نظرية الخلق من العدم اقترحت من قبل المتكلمين لأجل إعطاء تفسير لحدوث العالم ومسألة إثبات الصانع، في حين كان لهذه النظرية استلزامات كلامية كان لا بد للمتكلمين أن يفكروا فيها ويلتزموا بها، وأن يعطوا تفسيراً عن كيفية خلق الحوادث من قبل الله من دون أن يضطروا بقبول تجدد ذات الله وصفاته الذي لا يليق به. وهذه الأبحاث بدورها أخذت تعمّق مسأله التأمل النظري حول الحدوث، وربط الحادث بالقديم، ومسألة علاقة الله وصفاته بعملية الخلق، ومسألة فاعلية الله في العالم. ولذلك كانت إشكالية التنزيه / التشبيه ترتبط بإشكالية القديم / الحادث، وفي هذا المجال، كان المعتزلة والجهمية، يدافعون عن الرؤية التنزيهية لله وصفاته، ويردّون على عقيدة التشبيه وعقيدة الصفات عند قطاعات أصحاب الحديث وفقهاء السنة؛ ولذلك كانوا يلجأون إلى مبدأ التأويل للآيات القرآنية والأحاديث حول الصفات والأسماء الإلهية.
هذه النقاشات أدت إلى إيجاد نوع من المناخ الفكري، يتناسب وتبادل الأفكار بين سائر الجهات المنخرطة في النقاشات والأبحاث الفكرية في هذا الوقت المبكر من تاريخ علم الكلام في الإسلام في القرنين الثاني والثالث الهجريين. وفي جانب المعتزلة، كان للمتكلمين المرجئة والجهمية والأوساط القريبة منهم أمثال ضرار بن عمرو الكوفي (المتوفى حوالي سنة 200 هـ )، وبشر المريسي (المتوفى سنة 218 هـ) في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري دور بارز في تطور علم الكلام، وفي النقاشات المختلفة السائدة آنذاك أيضاً، كما لا بد أن نذكر دور الإباضية، وبقية فرق المحكمة في تطوير علم الكلام المبكر.

طبيعة الفعل الإنساني
أما في وسط هذه النقاشات حول علاقة الله بالإنسان ،وفاعلية الله في حيات الإنسان اليومية والدينية من جهة ،ومسألة حدوث العالم ،وعملية الخلق ،وربط الحادث بالقديم، فقد تصدرت مسألة الفعل الإنساني وطبيعته أولى الاهتمامات لدى المسلمين. وهذه النقاشات –كما هو معروف – ارتبطت بالجدل حول مدى مسؤولية الإنسان أمام الله ؛ولأجل ذلك اهتم المتكلمون بتفاصيل دقيقة ترتبط بطبيعة الفعل الإنساني، وكيفية تصرف الإنسان في نفسه، وفي العالم ؛ من هنا بدأ البحث حول موضوعات كالاستطاعة والكسب وخلق الأعمال ، والتولد والطبع وغيرها من الموضوعات التي كانت في صدارة وأولويات الفكر الكلامي ، والمنظومات الكلامية في الإسلام في مختلف المدارس الكلامية في القرون التالية .
فقد ناقش المتكلمون مسألة علاقة الله بالفعل الإنساني، وكيف يمكن قبول مسؤولية الإنسان مع الاعتقاد بفاعلية الله المطلقة في الكون؟ وكيف يمكن القبول بالتوحيد الأفعالي في حين هناك فاعلية حرة من دونه؟ وأكثر من ذلك، كيف يمكن التوافق بين أزلية ووحدوية ولا زمانية / مكانية الله، وبين تدخله وتصرفه في الفعل الإنساني الزماني / المكاني؟ وهل يعني ذلك تجدّد في ذات الله؟ وكيف يمكن أن نقبل بسعة علم الله المطلق وأزليته وشموليته، في حين أن هناك أفعالاً حادثة من قبل الإنسان؟ وهل هي داخلة في علم الله وإرادته أم لا؟ وكيف يمكن قبول عدم شمولية علم الله وإرادته للأفعال الإنسانية؟ وقد اضطر المتكلمون المعتزلة لتقديم تفسير لكيفية اختيار الإنسان وإرادته المستقلة في تصرفاته الحرة، مع أنهم كانوا يتحركون في مناخٍ فكري وديني يرى أن لله فاعلية مطلقة وأن علمه وإرادته شامل ومطلق؛ ولذلك كانوا يضطرون لإعطاء تفسيرات مختلفة عن علم الله وإرادته وقدرته تجاه أفعال الإنسان الحرة وتفسير علاقة أفعال الإنسان بسعة علم الله وقدرته. هذه الأسئلة بطبيعة الحال، كانت تساعد في الدخول في تفاصيل أكثر دقة، وفي معترك الآراء حول مسائل الطبيعة، وحول ذات الله وصفاته، ومسألة المعنى / المعاني والأحوال، ومسألة الزمان والمكان والجسم والجواهر والأعراض وبقاء الأعراض والحركة والسكون وغيرها من المسائل التي شاركت فيها الفئات المختلفة من المتكلمين.

مسألة النبوة والوحي
مثّلت النقاشات التي واجهت المتكلمين تحدياً جذرياً بارزاً من قبل المتحمسين للعقل وآلياته، والبحث الحر الذي لا يتقيّد بالقيود الدينية او المذهبية، ومنذ القرن الثاني، وخاصة من القرن الثالث برزت شكوك في النبوة بشكلٍ عام وترجيح العقل على الوحي / النبوة. ومن المعلوم أن بعضهم لم يكن يعترف بالنبوة أو الديانات المختلفة / المذاهب، بل يعتبر أن ذلك سبب لاختلافات الناس وأنه يتحتم الرجوع في ذلك إلى العقل؛ وفي هذا السياق فإن باب برزويه الطبيب (من كتاب كليلة ودمنة) المنسوب إلى ابن مقفع (المتوفى سنة 142 هـ) يمثل نموذجاً مبكراً في الإسلام. ومن المعروف أن أبا عيسى الورّاق (المتوفي سنة 247 هـ) وابن الراوندي / الريوندي (المتوفى في النصف الثاني من القرن الثالث) – حسب بعض الروايات كانا من الذين ردوا على النبوة وضرورتها. وفي التراث / الأدبيات الإسلامية عادة تسمى هذه الفئة من الشكاكين دعاة العقل بالزنادقة أحياناً وبالبراهمة أحياناً أخرى. والفيلسوف محمد بن زكريا الرازي (المتوفى سنة 330 هـ)، والطبيب المشهور أشهر من عرفه التاريخ الإسلامي في النقد على النبوة والدفاع عن العقل، وله مناظرات وجدل مع الإسماعيلية (مع أبي حاتم الرازي، المتوفى سنة 322 هـ) في هذا الموضوع. وفي القرون التالية أيضاً بقي تقليد مستمرّ لمنكري النبوة أو أصحاب العقل كما نقل عن أبي العلاء المعري (المتوفى سنة 449 هـ)، واستمرت تشغلهم فضائل العقل والرد على أصحاب الأديان ؛ وكانت فئات من الذين كانوا يردّون على المتكلمين هم أصحاب عقيدة تكافؤ الأدلة التي تشك في ترجيح أدلة لعقيدة دون أخرى. أما المتكلمون فكانوا يردّون على منكري النبوة في المباحث المتعلقة بالنبوة ويسمونهم بالبراهمة.

الخلافات الفقهية ودور علم الكلام
من جهة أخرى، إذا لاحظنا الحركة الفقهية في القرن الثاني الهجري نجد خلافاً فقهياً بين الأمصار، وذلك بين فقهاء وأهل العلم في المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام واليمن ومصر، حتى تحقق وبشكلٍ تدريجي لكل مصر من الأمصار تقليد مرجعي فقهي، إلا أن الخلاف الفقهي وصل إلى إشكالية مرجعية الشريعة ومصادر التشريع الفقهي؛ فثمة فقهاء / أهل العلم مالوا إلى اجتهاد الرأي، وفضّل آخرون التحرك داخل المأثور حسب المستطاع والتفقه حسب ما كان عليه العمل ("الكلام فيما تحته العمل") وعدم الدخول في البحث الفقهي للأمور الفرضية، ولذلك كان فقههم ينحصر في فقه المنصوص في أكثر الأحيان دون اللجوء إلى الاجتهاد. أما في أواخر القرن الثاني الهجري، وربما قبله، ومنذ منتصف القرن، كان وجه الخلاف بين أهل العلم وفئات وفرق مختلفة في موضوع مصادر الحجية في الفقه والعقيدة. وقد تحول فيما بعد إلى نقاش جذري حول مصادر المعرفة الدينية، ومنها موقع أقوال المنسوب إلى النبي محمد (ص) وإلى الصحابة أيضاً فيما يخص اختلافات الصحابة، وفتاوي التابعين، والإجماع والقياس والاجتهاد. وكانت النقاشات تدور حول أسباب خلاف الأمة، وكيف بدأت الخلافات؟ وفيما اختلفت، ومسألة التصويب، والتخطئة، ونتائج الخلافات في الإيمان / الكفر / الفسق، والنقاش حول الخطأ / الذنب، والسنة / البدعة. ومن الذين دخلوا في هذا المعترك كان أبا حنيفة وله آراء حول المرجعية في الفقه. ومن المتكلمين الذين نعرف آراءهم في هذا الصدد، يمكن أن نذكر واصل بن عطاء، وإبراهيم النظام، وضرار بن عمرو، وبشر المريسي وآخرين.

عصر المأمون العباسي
ومنذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري قدّم المتكلمون المعتزلة في البصرة وفي بغداد امثال أبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وتلاميذهما الكثير في المجال الكلامي، كما أن للمتكلمين من مذاهب الشيعة والمرجئة دوراً بارزاً في هذا التطور؛ ولكن مع استلام السلطة من قبل المأمون العباسي (الخلافة ما بين 198-218 هـ) بعد معركة كبيرة مع أخيه الخليفة محمد الأمين (الخلافة ما بين 193-198 هـ)، وانطلاقاً من اهتمام المأمون بالأبحاث والعلوم الكلامية والدينية، وكذلك توجهاته السياسية وأهدافه فيما يخص العلاقة بين السياسي والديني، بدأ المأمون بحركة علمية دينية سياسية كان من إحدى نتائجها قضية المحنة، وكل ما جرى تحت عنوان قضية خلق القرآن، والتهجم على عقائد أصحاب الحديث في الصفات الإلهية، وموضوع كلام الله. وتذكر المصادر أن مرجئة بغداد ممثلة بالجهمية كان لهم دورٌ بارز في تحريك المأمون نحو هذه القضية. كما أن للمعتزلة أيضاً نفوذاً خاصاً في البلاط العباسي. أما الجهمية والمعتزلة فأيدوا نظرية خلق القرآن، وفي المقابل كان أصحاب الحديث السني، وأكثر الفقهاء يردون على هذه النظرية، ويرفضون الخوض فيها كما في سائر المسائل الكلامية.
شنبه ۶ مهر ۱۳۸۷ ساعت ۲۲:۳۰