ابو علي احمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصبهاني (د. ۴۲۱ ق)، اديب و دانشمند برجسته معاصر صاحب بن عباد و روزگار آل بويه در اصفهان در عين حال که اديبی برجسته و دارای آثاری مهم در اين زمينه مانند شرح حماسه ابو تمام و شرح المفضليات و امالی ادبی است، متکلمی برجسته و بر مذهب معتزلی هم بوده است. او البته گويا تمايلات شيعی داشته و به هر حال به دليل همين تمايلاتش تقريباً مورد بی اعتنايي بيشتر منابع سنی قرار گرفته؛ با اين وصف خوشبختانه آثار متعددی از او موجود است و تعدادی هم به چاپ رسيده است. از زندگی و جزييات آن هم بسيار کم می دانيم و تحقيقی شايسته درباره او جز پاره ای نوشتجات در رابطه با جنبه های ادبی وی تاکنون ارائه نشده است. از جمله آثاری که از او ديری است به چاپ رسيده کتاب الأزمنة والأمکنة است که در اصل کتابی است ادبی و لغوی درباره زمان و مکان و مواقيت و افلاک اما همراه با ديگر فوائد مختلف علمی و دينی؛ به ويژه در قسمت آغازين آن. از جمله فوائد جالب اين کتاب اشتمال قسمتی از مجلد اول آن بر مباحثی کلامی است و همچنين موضوعات اعتقادی و تفسيری. ابو علي مرزوقي در قسمتی از اين بخش به مناسبت بحثهای مربوط به ماهيت زمان و مکان به آرای متکلمان پرداخته و با رويکرد و گرايشی معتزلی به رد آرای فلاسفه نيز پرداخته است که به ويژه از نقطه نظر مناسبات متکلمان و فلاسفه مسلمان که موضوع تحقيقات کنونی نويسنده اين سطور است کمال اهميت را دارد. در قسمتی از همين بخش هم رديه او را بر محمد بن زکريای رازي در موضوع زمان می بينيم. قسمتی از آنچه در اين بخش آمده حاوی اطلاعات جالبی در ارتباط با عقايد متکلمان و مخالفان آنان در موضوعات دقيق/ لطيف کلامی است و نکته جالب اينکه نويسنده در آن از نوبختي نقل قول می کند که منظور حسن بن موسی النوبختي، دانشمند برجسته امامی مذهب است و مراد از کتابش هم بايد الآراء والديانات او باشد (نک: بازسازی متن کتاب نوبختي، تهيه از سوی نويسنده اين سطور، در دست آماده سازی نهايی). او از شاگردان اديب نامدار ابو علي الفارسي هم بوده که خود وی نيز معتزلی مشرب بوده است. اما به هر روی گرايش معتزلی ابو علي المرزوقي حتی در آثار معتزليان مورد اهتمام نبوده و تقريباً جنبه فراموش شده شخصيت اوست. ما در اينجا بخشهای اصلی گفتار ابو علي المرزوقي را در اين کتاب که با بحثهای دقيق کلامی پيوند دارد نقل می کنيم. اين بخشها شامل مباحث کلامی در رابطه با معرفت و نظر؛ حدوث عالم و استدلال بر آن؛ بحثهای دقيقی در رابطه با موضوع صفات و اسماء الهی و دست آخر مباحث زمان و مکان است که در آن به موضوعاتی مانند خلاء و ملاء هم پرداخته شده و به ويژه در فصل زمان و مکان آرای فيلسوفان يونانی و اسلامی و در مقايسه با آراء و اقوال متکلمانی مانند ابو القاسم بلخي و ديگران نقل شده است. اين بخشها سند مهمی است در ارتباط با آشنايی اديب معتزلی مشربی در عصر آل بويه با آرای فلسفی ای که در همان روزگار در ميان اهل فلسفه در ري و اصفهان و خراسان مجال طرح داشته است؛ از سوی کسانی مانند ابو علي ابن سينا و هم مسلکان او. فی المثل آنچه او در ارتباط با رد آرای فلاسفه درباره هيولی و حدوث و يا قدم عالم مطرح می کند با رديه های ديگری که از معتزليان در اين زمينه در اختيار داريم قابل مقايسه است (نک: پژوهش ما در ارتباط با مناسبات متکلمان و فلاسفه مسلمان که در حاشيه تحليل تفصيلی کتاب تحفة المتکلمين ملاحمي در دست انجام داريم). در پيش از قسمت نقل شده در ذيل، ابو علي مرزوقي بحثهايی تفسيری و تأويلی در رد باورهای اهل سنت و به ويژه گرايندگان به آرای تشبيهی نيز دارد؛ مانند بحث رؤيت باری تعالی که آن بخشها را اينجا نقل نکرده ايم اما بی ترديد اين قسمتها هم برای مطالعه آرای اعتقادی معتزله مفيدند؛ به ويژه اينکه می دانيم او درست معاصر قاضي عبد الجبّار همداني بوده و بی ترديد با معتزليان حلقه ری آشنايی داشته و مرتبط بوده است؛ خاصه که او نيز چنانکه از متن نوشته اش پيداست، همچون حلقه ري، گرايش بهشمي داشته و فی المثل در مسئله شيئيت معدوم و احوال، آرايش با آنان يکسان است. در بخشی از آنچه اينجا از متن کتاب نقل کرده ايم، آرای ادبی/ نقد ادبی معتزليان و به ويژه مبانی کلامی اين دست مباحث نزد ايشان هم معلوم می شود که در جای خود بايد مورد مطالعه مستقل قرار بگيرد. با وجود اينکه کتاب الأزمنة والأمکنة مدتهاست چاپ و منتشر شده اما عموماً به دليل اينکه نويسنده شهرتی به معتزلی بودن در آثار معتزليان ندارد و شهرتش بيشتر ادبی بوده است، تاکنون با چند استثناء در تحقيقات مربوط به مطالعات کلامی معتزلی مورد توجه محققان اين زمينه از علوم قرار نگرفته است. از همينرو مناسب ديديم اين بخشها را مستقلاً اينجا ارائه دهيم (برای ابو علي المرزوقي؛ نک: مقدمه آثارش و به ويژه شرح الحماسة او؛ نيز: محاسن اصفهان مافرّوخي. آقا بزرگ تهراني در الذريعة آثار متعدد او را نام برده؛ بدين دليل که ابن شهرآشوب در معالم العلمای خود، "الأديب المرزوقي" که گويا مقصود همو باشد را در شمار شعرای اهل بيت قرار داده است؛ نک: معالم، ص ۱۵۱).

كتاب الأزمنة و الأمكنة، ۱/ ۸۵ به بعد
فأمّا الكلام في المعرفة باللّه تعالى و وجوبها و بيان فساد قول القائلين بالإلهام فإنّا نذكر طرفا منه و نقول: اختلف النّاس في ذلك فزعم قوم أنّ المعرفة لا يجب على العاقل القادر و أنّها تحدث بإلهام اللّه تعالى و كل من لم يلهمه اللّه المعرفة به فلا حجة عليه و لا يجب عليه و قالوا: إنّ الذين قتلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يكونوا كفارا و إنّما قتلوا على سبيل المحنة، كما يقتل التّائب و الطّفل و لا يجب عليهم عقاب لأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يغضب و على من لم يرد إغضابه.
و قال الجاحظ: إنّ المعرفة غير واجبة و لكنّها تحدث بالطبع عند النّظر، و قال: إنّ الذين قتلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كانوا عارفين باللّه معاندين و احتج بقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ‏ [سورة النمل، الآية: ۱۴] و قال لا يأخذ اللّه الإنسان بما لم يعلم و لا بما أخطأ فيه ألا تراه يقول تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏ [سورة البقرة، الآية: ۲۲۵] و استدلّوا على صحة مذهبهم بأن قالوا إن الاعتقاد لا يعلم أنه حسن أو قبيح حتى يعلم أنّه علم أو ليس بعلم فإذا علم أنّه علم فقد علم المعلوم لأنّ العلم بالعلم علما هو علم بالمعلوم فإذا علم المعلوم فقد استغنى عن اكتساب العلم به و إن كان لا يعلم أنه علم فإذا لا يجب على هذا الإنسان فعل ما لا يأمن أن يكون قبحا.
و قال أكثر أهل العلم إن المعرفة واجبة و هي من فعل الإنسان و إنّ أول المعرفة يقع متولدا عن النظر و لا يجوز أن يقع مباشرا ثم ما بعد ذلك لا يجوز أن يقع مباشرا و أنّ كلّ من أكمل اللّه عقله و عرّفه حسن الحسن و قبح القبيح فلا بدّ من أن يوجب عليه المعرفة به، و أن يكلفه فعل الحسن و ترك القبيح و بعضهم يضيف إلى هذه الجملة و قد جعل شهوته فيما قبحه في عقله و نفور نفسه عما حسنه في عقله.
و يستدل على وجوب معرفة اللّه فإنه لا يخلو من أن يكون قد كلّفنا اللّه لحسنها و قبّح الذّهاب عنها أو لم يكلّفنا و تركنا مهملين، فإن كان قد كلّفنا فهو الذي يزيد، و إن كان تركنا سدى فإنّ الإهمال لا يجوز عليه. و يقال أيضا: نحن نرى على أنفسنا آثار نعم، و نعلم وجوب شكر المنعم، فإذا يجب أن نعرف المنعم لنشكره.
و اعلم أنّ المعجز هو ما لا يقدر عليه في صفته أو في جنسه، فأمّا لا يقدر عليه في جنسه فهو مثل إحياء الموتى و أمّا ما لا يقدر عليه في صفته فهو فلق البحر. لأنّا نقدر على تفريق‏ الأجسام المؤتلفة، و لكن على تلك الصّفة و تلك الحالة لا نقدر عليه، فأمّا الخبر عن الغيوب فليس بمعجز و لا وقوع المخبر على ما أخبر به معجز إذ يجوز على الخبر عن الغيب أن يكون صدقا أو كذبا و إذ قد ثبت أن يخبر الإنسان عن الشي‏ء أنه يكون فيكون و ليس يعلم في حال الخبر أنّ المخبر به يقع على ما أخبر به عنه و لا يعلم أنه معجز و إنّما العلم بأنّ الشي‏ء يكون قبل أن يكون يعجز بلى من سمع النبي صلى اللّه عليه و سلم يذكر أنه سيكون كذا و كذا و يخبر عن الغيب ثم يبقى إلى الحالة يكون فيها ما ذكره فحينئذ يكون ذلك دلالة و حجة عليه، فأمّا من لم يبق إلى تلك الحالة فهو ليس تقوم عليه الحجّة في وقت الإخبار و لا يصح الاستدلال بذلك بل يجب أن يدلّه اللّه بدليل آخر.
فإن قال قائل: كيف يصحّ أن يكون انقضاض الكواكب رجما للشيّاطين و لا يخلو من أن يكون الذي يرمى به الشيّطان ليحرقه كوكب فيجب أن يفارق مكانه و ينقص من عدد الكواكب و قد علمنا منذ عهدت الدنيا لم تنقص و لم تزد أو يكون الذي يرمى به شعاعا يحدث من احتكاك الكواكب و اصطكاك بعضها ببعض فيفصل ذلك الشّعاع من الكواكب و يتّصل بالجنّي حتى يحرقه، إذ لو لم يتّصل به لم يحترق و هذا أيضا لا يجوز لأنّ الكواكب لا تحتك. قيل له: إنّ كل ما ذكرت غير ممتنع قد يجوز أن يكون هناك كواكب لا تلحقها العين لصغرها كما قال قوم في المجرة إنها كلّها كواكب و لا تبين، فيجوز أن يحتك بخاران عظيمان فيحدث الشّعاع و يحترق الجنّي، و كلّ ذلك ليس بمستنكر و على هذا جاء في القرآن.
و أما انشقاق القمر فإنّ الجاحظ كان ينفيه و يقول: لم يتواتر الخبر به و يقول أيضا لو انشقّ حتى صار بعضه في جبل أبي قبيس لوجب أن نختلف التّقويمات بالزيجات لأنه قد علم سيره في كلّ يوم و ليلة، فلو انشقّ القمر لكان وقت انشقاقه لا يسير، فأمّا قوله تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ [سورة القمر، الآية: ۱] فإنّما معناه سينشقّ و نحن نثبته و نقول:
يكون ذلك دليلا خصّ به عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه و أنّ سائر النّاس لم يرده لأنّ اللّه حال بينهم و بين رؤيته بغمامة أو غيرها و يجوز أن يكون غير عبد اللّه رآه، فاقتصر في نقله على رواية عبد اللّه و على ما نطق به القرآن من ذكره.



فصل الاستدلال بالشّاهد على الغائب‏
لأنّه الأصل في معرفة التّوحيد، و حدوث الأجسام و صدق الرّسل. قال اللّه تعالى:
الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏ [سورة البقرة، الآية: ۱- ۳] قيل معناه يؤمنون بما غاب عنهم من أمر الآخرة و قيل: يؤمنون بما غاب من‏ البعث و النّشور، و أخبرهم به النبي. و قيل: المراد يؤمنون باللّه و رسوله و ما أنزل إليه، يظهر الغيب لا كالمنافقين الذين يقولون للمؤمنين إنا معكم، و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنّا معكم، إنّما نحن مستهزءون، و مثله قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ‏ [سورة يوسف، الآية: ۵۲] و قوله تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [سورة الأنبياء، الآية: ۴۹].
و اعلم أن من لا يفعل ذلك لم يجز له أن يعرف شيئا إلا من جهة المشاهدة أو ببداهة العقل، أو بخبر ممن شاهده و لو كان كذلك لسقط الاستدلال و النظر، و لما جاز أن يعرف اللّه و لا حدوث الأجسام، و لا صدق الرّسل فيما أتت به من عند اللّه، لأنه يجوز أن يعرف اللّه بالمشاهدة و لا ببداهة العقل لأنّه لا يشاهد، و لأنه لو عرف ببداهة العقل لاستوى العقلاء في معرفته، فوجب بهذا أن لا يعرف اللّه إلّا بدلالة المشاهدة، و كذلك حدوث الأجسام، و لسنا نريد باستشهاد الشاهد أن يستدلّ به على ما لم نشاهده إلا بأن نشاهد نظيره، و مثله أ لا ترى أنّا لو شاهدنا في هذا البلد إنسانا لم نعرف بذلك أن في غير هذا البلد إنسانا آخر من غير أن نشاهده، و لكن هو أنا إذا وجدنا الجسم في الشّاهد إنّما كان متحركا لوجود حركته، ثم وجدنا حركته لا توجد إلا فيه، و متى بطلت حركته لم يكن متحركا دلنا ذلك على أن كلّ جسم متحرّك فيما لم نشاهده لم يكن متحركا إلا لوجود حركته، و لا توجد حركته إلا فيه، و متى بطلت حركته لم يكن متحركا؛ لأنّه لو جاز أن يكون متحركا في الغائب مع عدم حركته لجاز في الشاهد مثله، و كذلك إذا وجد الجسم في الشاهد إنّما كان جسما لأنّه طويل عريض عميق و متى عدم طوله أو عرضه أو عمقه لم يكن جسما لزمه أن يعلم بدلالة الشّاهد أنّ الجسم الغائب إنمّا كان جسما لمثل ذلك.و كذلك إذا وجد الجسم في الشّاهد لا يكون في مكانين في وقت واحد لأن وجوده في أحد المكانين ينافي وجوده في المكان الآخر كان علينا أن نجري القضية في الغائب على حده. و كذلك القول في امتناع اجتماع الضّدين، و الحركة و السّكون و السّواد و البياض، و الاجتماع و الافتراق بحسب أن يراعى حالها في الشّاهد فيحمل الغائب عليها و إذا كان الأمر كذلك وجب أيضا أن يكون إذا وجدنا الفعل في الشّاهد لا يوجد إلّا من فاعل، و لا يحصل موجود إلا بفعله له، ثم وجدنا فعلا لم نشاهد له فاعلا أن نعلم بدلالة الشّاهد أنّ له فاعلا و إن كنّا لم نشاهده، و لا يجب إذا لم نجد إلا أجناسا من الأشياء أن لا يثبت في الغائب خلافا لما شاهدنا، لأنّ الأعمى الذي لم يشاهد الألوان قط لا يجوز له أن يثبت شيئا إلّا من جنس ما شاهده بسائر جوارحه، إذ قد ثبت الألوان التي هي خلاف جميع ما شاهده، و إن كان هو لم يشاهد و كذلك الحياة و القدرة و العلم لا يشاهد و لا شوهد نظائرها و لا يجب مع ذلك أن لا نثبتها مع وضوح الأدلّة عليها فلم يجب علينا لمن أراد منّا نفي القديم إذ كنا لم‏ نشاهد له مثلا و لا نظيرا أن ننفيه من أجل ذلك إذ كان يجوز أن نثبت بالأدلّة ما لا نظير له كما مثلّناه.
و إنّما يجب تكذيب من وصف الغائب لصفة الشّاهد ثم أزال عنه المعنى الذي استحقّ الشّاهد به تلك الصفة، فأمّا متى أثبت في الغائب شيئا مثبتا من غير أن يكون بصفة المشاهد الذي وجبت له هذه الصّفة لعلّة، و قال مع ذلك: إنه غير مثبت لما شوهد لم يجز أن نبطل قوله بما شاهدنا، إذ كان يجوز أن يكون ما ادعّاه خلافا لما شاهدناه، كما لم يكن للأعمى إنكار الألوان إذا أخبرناه بها من حيث كانت مخالفة لما شاهده بسائر جوارحه، و لم يكن لأحد أن ينكر الحياة و القدرة لأنهما خلاف ما شاهده، و لكن يجب أن يطالب بالدّلالة على صحّة الدّعوى، فإذا ثبتت ثبت مدلولهما، و إلا سقطت الدعوى، و هذا أصل القول في استشهاد الشّاهد على الغائب فاعلمه.


فصل في أسماء اللّه و صفاته و أحكامه (و بيان الأصوات كيف تكون حروفا، و الحروف كيف تصير كلاما)

اعلم أنّ الأصوات جنس من الأعراض تحته أنواع تعلم، فإذا توالى حدوثها منقطعة بمخارج الفم و ما يجري مجراها سمّيت حروفا، لذلك قيل: الكلام (مهمل) و (مستعمل).
(فالمستعمل) ما تناولته المواضعة أو ما يجري مجراها من توقيف حكيم، فجعل عبارة عن الأعيان أنفسها و عنها بأحوالها. (و المهمل) ما خالف ذلك، و إنما قلنا هذا لأنّ جنس الصّوت لا يقتضي كونه حرفا و لا كلاما متى لم تطرأ المواضعة عليها، و ما جرى مجراها، و المواضعة لا تصح إلا مع القصد إليها لذلك قيل: ما ينقسم إليه الكلام من الخبر و الأمر و النّهي و الاستخبار لا يكاد يحصل مفيد إلا بإرادة غير القصد إلى المواضعة، لهذا متى ورد الكلام من سفيه لم يفد السّامع شيئا، كما يفيده إذا ورد من الحكيم على المخاطب العارف بالمواضعات لمّا تعذرت معرفة قصده و صار الصّدق و الكذب يستوي حالاتهما و تقام صور أنواع الكلام بعضها مقام الآخر حتى يوجب ذلك التّوقف عن قبول الأخبار و ترك القطع على ما يسمع منها إلا مع البينة.
و اعلم أن الحاجة إلى المواضعة بالأصوات هي البيان عن المراد لما كان الكلام المستعمل تنبها عليه، فلذلك يستغني الحكيم فيما عرف مراده عن الخطاب إلا عند كونه لطفا في فعل المراد و متى أمكنه بالإشارة و الإيماء بيان غرضه عدل عن الخطاب إلا أن يكون لطفا كما ذكرناه. و لما كان الأمر على ذلك اختلفت العبارات لاختلاف المراد و احتيج إلى التبين بعد ذلك، إذ كان الكلام بنفسه لا يدل على ما وضع له و لا بالمواضعة أو التوقيف. فإن قيل: فما الفرق بين (المهمل) و (المستعمل)؟ حينئذ قلت: الفرق بينهما أنّ الحكيم متى تكلّم بكلام مستعمل صحّ أن يعرف السّامع لكلامه مراده بما يقارنه من الدليل غير الكلام، و متى تكلم بكلام مهمل لم يجز أن يعلم مراده و إن قارنه ما قارنه و كان وجوده و عدمه بمنزلة، و لو كان الكلام دليلا يجوز الاستطراق منه إلى ما وضع له قبلها، لأن الدلالة لا تحتاج في كونها دلالة يجوز الاستطراق منها إلى مدلولها إلى المواضعة و إنما يحتاج في تسميتها دلالة إلى المواضعة لأنهم يسمونها دلالة إذا أراد فاعلها عند فعلها الاستطراق منها إليه و لذلك لا يجوز أن يسمّى فعل اللص دلالة عليه، و كذلك فعل البهيمة، و إن جاز الاستطراق منها إليه، و لهذا جاز أن يعرف اللّه بدلائله من لا يعرف شيئا من المواضعات.
و اعلم أنّ الكلام لمّا وضع للإبانة عن مراد المخاطب للمخاطب، لأنّ الغرض فيه إعلامه حدوث الشي‏ء إذ إعلامه أنّه يريد منه إحداثه أو إعلامه أنه يكره منه إحداثه، و الحدوث لا يكون إلا للذّوات و لم يكن بدّ من إعلامه العبارات عن ذوات الأشياء ليجوز منه أن يفرق الحدوث بها على وجه المراد انقسم الكلام أربعة أقسام:
الأول: عبارة عن الأعيان أنفسها و هي الأسماء.
الثّاني: عبارة عن حدوث الشي‏ء و هو الخبر عنه.
الثالث: عبارة عن إرادة إحداثه و هي الأمر به.
الرّابع: عبارة عن كراهية إحداثه و هي النهيّ عنه.
و الأسماء على ضربين:
الضّرب الأول: اسم وضع لتعريف المسمّى به و ليكون علما له دون غيره فيقوم مقام الإشارة إليه عند غيبته، أو لاشتمالها عليه، و يسمّى هذا الضّرب لقبا و لا يفيد في المسمّى به شيئا و لذلك لا يدخله الحقيقة و المجاز إذ كان لا يتعلّق بفعله و لا بحاله و لا بشي‏ء، مما يحلّه أو يحلّ بعضه، و لا يوجب الاشتراك فيها اشتراكا في غيرها كما لا يوجب الاشتراك في غيرها اشتراكا فيها و قال بعضهم هذا القبيل ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وضع تعريفا لآحاد الأشخاص كزيد و عمرو.
القسم الثاني: وضع تعريفا لآحاد أجمل الأشخاص و ليقوم مقام تعداد ذكر جميعها كقولك: إنسان و أسد و حمار و طائر، و لذلك لا يتعلق بشي‏ء من أوصافها و لا بما يحلّها، و يوجب الاشتراك فيها اشتراكا في الصورة دون غيرها و تسميّة أهل اللّغة الجسم جسما من هذا لأنه وجب له هيئته و تركيبه و لذلك لم يجز إجراءه على اللّه تعالى.
القسم الثالث: وضع تعريفا لآحاد جمل الأجناس المختلفة المشتركة في باب التّعلق بغيرها على وجه واحد، ليقوم مقام ذكر جميع الأجناس الدّاخلة تحتها، و هذا كاللّون و الكون و الاعتقاد و السّهو و ما يجرى مجراها، و هذا النّوع يسمّى جنس الفعل و يلزم الاشتراك فيها اشتراكا في نوعيتها.
الضرب الثّاني: على وجهين:
الوجه الأول: اسم على المسمّى به تعريفا لجنسه و للتميز بينه و بين ما خالفه و إن شاركه في التّسمية غيره من طريق القياس لاشتراكهما في الفائدة، و رسم بأنه اسم جنس لمّا كانت المسميّات به أعدادا كثيرة مماثلة و هذا كالسّواد و البياض و الحمرة و الخضرة و الحلاوة و ما جرى مجراها، يوجب مماثلة الموصوفين بها فلذلك استحال اشتراك المختلفين بالذّوات في اشتقاق الوصف بها.
النوع الثاني: اسم جرى على المسمّى ليفيد فيه ما يفارق به غيره مما لم يشاركه فيه من غير أن يكون افتراقهم في الوصف موجبا لمخالفتهم كما لم يوجب اشتراكهم في ذلك مما يليهم في اللفظ بل في المعنى أوجب ذلك لكونه جواهر و رسم بأنه صفة، و إذا قصد به الإكرام في التعلق قيل: إنّها مدح كما إذا قصد بها الاستخفاف قيل إنها ذم، إذ كانت لا تخلو من الحسن أو القبح و هي على وجوه:
الوجه الأول: صفة تفيد في الموصوف معنى حالا فيه و ذلك كقولك: متحرّك و ساكن، و أسود و أبيض، و حلو و حامض، و رسمت هذه الصّفات بصفات المعاني لأنها علل في إجراء الوصف على محالها من طريق الاشتقاق، فلذلك أخذ الاسم من لفظها، و الاشتراك في هذه الصفة يوجب الاشتراك فيما أفادته، و يقتضي مماثلة الموصوفين في المعنى لكونها جوهرا.
الوجه الثاني: صفة تفيد كون الموصوف فاعلا لمقدوره و الاسم يجري عليه مشتقا من لفظ اسم فعله، و هذا كقولك: ضارب و شاتم و متكلم، و رسمت هذه الصّفات لصفات الفعل و لا يوجب الاشتراك في هذه الصّفة تماثل الموصوفين لا بالمعنى و لا باللّفظ كما أوجب في الأولى.
الوجه الثالث: صفة تفيد الإضافة و النّسبة و ذلك كقولك: هاشميّ و بصريّ و دار زيد، و غلام عمرو، فباتّصال الياء المشدّدة بالاسم صار صفة بعد أن كان علما أو غير صفة.
الوجه الرّابع: صفة تفيد وجود الموصوف بها يجري عليه هذه الصفة و يرجع إلى غيره و هذا كوصف الاعتقاد بأنه علم أو جهل، أو تقليد أو ظن. و وصف العلم بأنه غم أو سرور. و وصف السّهو بأنه نسيان، و كوصف الكون بأنه حركة أو سكون، أو مجاورة أو مفارقة، و كوصف الحروف بأنّها كلام و الكلام بأنه خبر أو أمر أو نهي. و وصف الإرادة بأنّها عزم أو قصد أو خلق و كذلك جميع ما يجري. و الاشتراك في هذه الصّفات يوجب اشتراك الموصوفين بها فيما أفادته دون غيرها مما يجري مجرى تماثل ذواتها و اختلافها.
الوجه الخامس: صفة تفيد كون الموصوف بها على حال من الأحوال و هذا كوصف الشّي‏ء بأنه معدوم أو موجود، أو حي، أو قادر أو عاجز أو معتقد، أو عالم أو جاهل، أو ساه أو مريد، أو كاره أو سميع أو بصير. و على الأحوال التي إذا كان عليها إدراك المدركات يسمّى به الشّي‏ء لتهيأ ذكره و الإخبار عنه و هو قولهم شي‏ء و نفس و عين و ذات. و كذلك الأسماء المضمرة و المبهمة نحو هو و أنت، و ذلك و هذا و الهاء في ضربته و الياء في ضربني. و فرّقوا في بعضها بين المذكّر و المؤنّث و الواحد و الجمع. و هذه الصّفات و الأسماء التي نوّعناها و أشرنا إليها مقتسمة بين الحقيقة و المجاز، و سنبيّن كيفية وضعها و استمرارها أو انقطاعها في البابين إن شاء اللّه تعالى.


فصل آخر [في أنّ اللغة لا يجوز أن يكون فيها غلط ]
اعلم أنّ اللغة لا يجوز أن يكون فيها غلط و ذلك أنه إن كان اللّه تعالى واضعها على ما يذهب إليه أكثر العلماء، و على ما أخبر به عند قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
[سورة البقرة، الآية: ۳۱] فلا يجوز أن يكون فيها غلط لأنّ الحكيم الذي بيّنها لعباده لا يجوز عليه الغلط و إن كان يجوز أن يكون قد ذهب عنهم بعض ما بينه لآدم عليه السلام و أحدثوا أبدالا منه، أو زادوا عليه على حسب الدّواعي و الحاجة، و لو كانوا فعلوا ذلك لما جاز أن يعلم أحد تغيّرهم لذلك إلا بخبر من اللّه ينزله على نبي من أنبيائه لأن اللّغات لا تعرف إلا من جهة السمّع و لا تعرف بدلالة العقل، و لو كانوا غيّروها بأسرها لما أنزل اللّه القرآن بها على لسان محمد صلى اللّه عليه و سلم، و إن كان ابتداء اللّغة من كلام العباد و تواضعهم على ما يقوله بعضهم فلا يجوز أن يقع فيها أيضا غلط لأنّهم إنما سمّوا الأشياء بأسماء جعلوها علامات لها لتعرف بها و ليكون التّباين و التّمايز منها، و إذا كان أصل كلامهم و لغتهم جروا فيه على ما بيّنا فلا يجوز أن يكون فيها غلط لأنّ الحكمة تلحقه و لا تفارقه في الحالتين جميعا، و إذا ثبت ما بيّناه من أمر اللغة و وجدنا انقسامها إلى الحقيقة و المجاز و الحقيقة ما وضع من الأسماء للمسميّات على طريق اللّزوم لها، و الاطراد فيها لأنّها يحق لها عند التعبير عنها و أمثلتها ما قدّمناه، و المجاز ما أجري على الشّي‏ء و ليس له في أصل الوضع، تجوزا على طريق الاستعارة، و تفاصحا منهم و افتنانا و يكون قاصرا عن الأصل و زائدا عليه و مماثلا له، و كيف اتّفق يكون‏ مستفاده أبلغ من مستفاد الحقيقة و لذلك عدل إليه نظرنا فوجدنا طريق استحقاق الموصوفين من وجوه أربعة:
الوجه الأوّل: طريق الاختصاص و الاستبداد و هو المرسوم لصفات النّفس ليفيد في الموصوف أنه مستبد بها، و مستغن بكونه عليها عن غيره و أنه مختص بها من غير أن يجعل نفسه كالعلّة الموجبة للعلل، و لا قائمة مقامها و هذا كوصف المحدث بأنه موجود و حي و قادر و عالم و سميع و بصير و ما جرى مجراها، و لذلك رسمت بصفات التّوحيد لمّا توحّد اللّه بطريق استحقاقها فلم يشاركه فيها غيره مع جواز وصفهم بها لاستحقاقهم لها من غير هذا الوجه.
الوجه الثاني: طريق المعاني الموجبة لها و هو المرسوم بصفات العلل ليفيد في الموصوف بها أنه مستحقّ لها بالعلّة الموجبة له عند تعلّقها به دون غيره و هذا كوصف المحدث بأنه عالم و قادر وحي و سميع و بصير و وصف كل موصوف بأنه مريد و كاره، و كقولهم مشته و نافر النّفس و ما شاكل ذلك.
الوجه الثالث: من طريق القادرين و هو المرسوم بصفات الفعل ليفيد في الموصوف بها أنه مستحقّ لها بكون القادر قادرا عند فعله و إيجاده إيّاه دون غيره، و هذا كوصف المحدث بأنه موجود لما كان معدوما و مقدور القادر عليه و ليس في الأحوال ما يتعلق بالقادر غير المعدوم الموجود.
الوجه الرّابع: من طريق استحالة ضدّها على الموصوف بها و رسمت بالصّفات اللّازمة ليفيد في الموصوف بها أنه مستحق لها على طريق اللّزوم له من غير أن يكون محتاجا في ذلك إلى غير ما يوجبها له، كالعلّة و ما يجري مجراها و من غير أن يكون مختصا به كصفات النّفس و هذا كوصف الشّي‏ء بأنّه معدوم، و معنى المعدوم أنه لا يجوز أن يحصل له من أحكامه التي تخصه و صفاته الجائزة عليه شي‏ء، كما أنّ الموجود هو الذي يكون على حاله يلزمه جميع أحكامه به و الموجبة له، فلذلك قلنا إنّه لا يكون معدوما بفاعل و لا بمعنى و لا بنفسه لمّا لم يكن له واسطة بين الوجود و العدم، فلذلك لزمه العدم عند استحالة الوجود عليه، فأمّا الأوصاف التي تتعلق بالأعيان ممّا لا يكون عبارة عن أحوالها بل هي إخبار عنها و عن غيرها لاختصاصها بها في باب الحلول أو التّعلق أو ما يجري مجراهما فليس لها علة و لا ما يجري مجراها و لا يجوز أن يكون شي‏ء من ذلك بالفاعل.
و اعلم أنّ أعمّ الأشياء قولنا شي‏ء لأنّه يتعلّق بالمسمّى لكونه معلوما فقط و مستحيل أن يكون ذات غير معلومة أو ذات على حال غير معلومة عليها أو غير جائز أن يكونا معلومين، فإن كان العلم لا يحصل بالحال التي عليها لأن العلم بالذّات هو الذّي منه يصل إلى العلم بالحال، و لذلك كان الذّات لا يخلو من الوجود و العدم معا إذ لو لم يكن الذّات معلومة في العدم للقديم تعالى لم يصح منه القصد إلى اختراعها و إيجادها و ليس قولنا شي‏ء مثل قولنا موجود، بدلالة أنّك تقول هذا شي‏ء زيد، فتضيفه و يمتنع أن يقال: هذا موجود زيد، و كان يجوز أن يحدّ القديم بأنه الشي‏ء لم يزل و المحدث بأنّه الشي‏ء عن أول كما يقال هو الموجود لم يزل و الموجود عن أوّل، و إذا كان قولنا معلوم غير متعلق بفائدة فيه و إنمّا تتعلّق فائدته بغيره فالواجب أن لا يكون قولنا شي‏ء مفيدا من هذا الوجه.
و يمكن أن يقال: إنه يفيد الذّات فكلّ ذات يسمّى شيئا و كلّ شي‏ء يسمّى بذات، و يمكن أن يقال أيضا إنه يفيد المعلوم، فصلا بينه و بين ما يسمّى محالا كاجتماع الضّدين لأنّ مثل ذلك لا يصحّ علمه، قال و ليس يخرج الذّات من أن يكون على حال مع كونه عليها يجوز أن يستحقّ غيرها و لا يجوز، فإن كان يجوز عبّر عنها بأنها موجودة، و إن كان لا يجوز عبّر عنها بأنها معدومة، فلذلك يسمّى المعدوم بالشّي‏ء كما يسمّى الموجود به لما كانا معلومين في الحالين جميعا لذلك قلنا: المراد بقولنا موجود إفادة حال من أحواله أيضا و حالة له أخرى و هي العدم. و فائدة قولنا معلوم أنّ عالما علمه لذلك جاز أن يقال معلوم زيد للشّي‏ء الذي هو مجهول عمرو، و الحال واحدة و يستحيل أن يقال للشي‏ء إنه موجود زيد أو معدوم عمرو على الأحوال كلها.
و اعلم أنّ اللّه تعالى لما أوجب في حكمته عند تكليف المكلّفين مداواة دائهم بالرّحمة لهم و العطف عليهم و الحلم عنهم، و طلب صلاحهم من حيث لا يدرون و يؤلفهم من جانب لا يشعرون رسم لهم في تعبّدهم الرّجوع إليه في مهماتهم و سوغ لهم دعاءه في رفع مأربهم فقال: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فَادْعُوهُ بِها [سورة الأعراف، الآية: ۱۸۰] وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ‏ [سورة البقرة، الآية: ۱۸۶] الآية ثم أنزل في محكم كتابه من أسمائه ما بصّرنا و هدانا و من صفاته ما قوّى إيماننا و إرشادنا، لو لا ذلك و التأسّي بالنّبي صلى اللّه عليه و سلم في أفعاله و قبول أقواله التي بها إبطال الضّلال، و إذا كان كذلك فإنّ ما أثبتته التّلاوة يضاف إليه ما دوّنته الرّواية عن الصّحابة و التّابعين و ما عدا ذلك مما لهج به ألسنة فصحاء الأمة و الصّالحين من أهل اللغة.
فقد روي في التّفسير أنّ قوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ [سورة الأعراف، الآية: ۱۸۰] أنه تسعة و تسعون اسما من أحصاها دخل الجنة، و جاء في الحديث أنّ: «اسم اللّه الأعظم اللّه» و روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «للّه مائة اسم غير واحد من أحصاها دخل الجنة» فيجب أن ينظر فيه فيما سبكه التّحصيل، و كما ذكرنا و ينقى من درن الغباوة و يتلقّى بالقبول فيما يجوز إطلاقه على القديم تعالى، و الباقي يتوقّف فيه و الوصف و الصّفة جميعا لا يكونان إلا كلاما و قولا فهو كالوعد و العدة.
و سمعت شيخنا أبا علي الفارسي يقول: أسماء اللّه تعالى كلّها صفات في الأصل إلّا قولنا اللّه و السّلام لأنّ السّلام مصدر، و لفظ اللّه بما أحدث من صفة و لزوم الألف و اللّام له، يعدّ من الصفات فصار متبوعا لا تابعا كالألقاب يريد يتبعه الصفات و يقدم به، و معناه الذي تحق له العبادة، فإذا قلنا لم يزل إلها الذي حقّت له العبادة من خلقه إذ أوجدهم. و قولنا إله نكرة و يجمع على الآلهة قال تعالى: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً
[سورة القصص، الآية: ۵] و اشتقّ منه تألّه الرّجل إذا تنسّك، قال:
سبّحن و استرجعن من تألّه لله درّ الغانيات المبدره‏
و روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم: «أن عيسى عليه السّلام قال له رجل: ما اللّه؟ قال: اللّه إله الآلهة». و روي عن ابن عباس أنه ذو الألوهية و العبودية على خلقه أجمعين. و روي في قوله تعالى: وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ‏ [سورة الأعراف، الآية: ۱۲۷] أنّ معناه و عبادتك، فالأصل إله حذفت الهمزة منه و جعل الألف و اللّام عوضا منه لازما و أدغم في اللّام التي هي عين الفعل، فصار الاسم بالتّعويض و الإدغام مختصا بالقديم حتى كأنّه ليس من الإله في شي‏ء، قال سيبويه: و مثله أناس و النّاس يريد في حذف الهمزة لا في التّعويض بدلالة قوله: إنّ المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا

فجمع بين الألف و اللّام و الهمزة، و لو كان عوضا لما جاز الجمع بينهما، و قد قيل في قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [سورة مريم، الآية: ۶۵] إنّ الاسم الذي لا سمّي له فيه هو قول القائل: اللّه بهذه البنية الصفية، و قولهم في صفات الفعل: يا غياث المستغيثين، و يا رجاء المرتجين، و يا دليل المتحيّرين، موضوع موضع الاسم و كلّ ذلك مجاز و توسّع، و كذلك قولنا: قديم إنما وجب له هذا لتّقدمه لا إلى أول، فهو صفة لذاته و ليس ثبت بهذا معنى يسمّى قدما. و قوله تعالى: كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ‏ [سورة يس، الآية: ۳۹] و في آخر: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏ [سورة الأحقاف، الآية: ۱۱] يراد به تقدّم له و إن كان القصد إلى المبالغة.
فإن قيل: فهل يوجب إجراء لفظ القديم على اللّه تعالى و على الواحد منّا كما ذكرت تشبّها به؟ قلت: لا و ذلك لأنّ اللّه تعالى قدم و تقدّم لنفسه و المحدث يقدم بأن الفاعل فعله في الأوقات المتقدّمة، و إذا كان كذلك فقد اختلف موجب الصّفتين فلم يجب منهما تشبيه، و على هذا قولنا: عالم في القديم و المحدث و قادر و سميع و بصير وحي و قدير و عزيز و ملك و مالك و مليك، على أنّه لو ساعدت العبارة لكان تفرد ما يستحق للذات بعبارة تلزمه، و يخالف بها غيره و كانت الحيطة في ذلك، لكنهم استطالوا ذلك و كان يكتفي بعلم الذات من لا يعلم حالها المختصة بها، فاقتصدوا في العبارة كما اقتصدوا في الأخبار في بابي التذكير و التأنيث، فأجروا ما لا يصح وصفه بالتّذكير الحقيقي و لا التأنيث الحقيقي مجرى غيره في العبارة.
و كذلك في الاخبار عن اللّه تعالى و إضمار أسمائه في الإتصال و الإنفصال إذ قلت هو و أنت و إياك و رأيته و رأيتك و مثل ذلك اقتصادهم في صفات ما غاب عنّا من أمور الآخرة و أهوال القيامة و طي السّماوات و تبديل الأرض غير الأرض إلى غير ذلك مما أخفيت حقائقه عنّا فاقتصروا في بيانها على عبارات لا تستوفيها، و على كنهها لا يؤديها، و هي ما نستعمله إذ عبّرنا عمّا نشاهده.
فأمّا الفصل بين السّامع و السّميع حتّى قيل: لم يزل اللّه سميعا و امتنع لم يزل اللّه سامعا فهو أنّ السمّيع لا يقتضي مسموعا فيعدى إليه و السّامع لا بدّ له من مسموع، و المسموع لا يكون مسموعا حتى يكون موجودا و ذلك يدافع قوله: لم يزل و هذا كما يقول: هو عالم و عليم في كل حال ثم تمنع من أن يقول: لم يزل اللّه عالما بأنه خلق زيدا إذ كان ذلك يوجب وجود زيد في الأزل، و على ما ذكر من الاقتصاد و الاقتصار تركوا العبارة عن أشياء و إن أدركها الفهم لقلّة البلوى بها و ذلك تركهم وضع في الصناعات المستجدّة ما أحدث من الأسماء و وضع في الشّرع أو نقل ما وضع و نقل.
و أما الأسماء المشتقة من الأعراض التي ليست مهيات كقولهم: فاعل و محدث و عادل و جابر و صادق و كاذب و مريد و كاره فإنها لا توجب تشبها و ذلك أن الإنسان قد يكون فاعلا لفعل لا يحلى به، و الفعل لا يختلف به هيئته عند أحد ممن يدركه، (أ لا ترى) أنّ هيئته لا تختلف لما يفعل في غيره من الحركات و التأليف و الافتراق و العدل و الجور و لا الإرادة و الكراهة و لا الأمر و النّهي فلم يجب أن تكون تسميتنا بهذه الأسماء للمسمّى بها إذا استحقها تشبها له، لأن التّشبه في الشاهد لا يعقل إلا من وجهين اثنين، أحدهما: اشتباه بالهيئة كالأسود و الأسود و الطويل، أو يشبهان بأنفسهما و أن يكونا من جنس واحد نحو البياض و البياض، و التقدم و التقدم، و التأخّر و التأخّر، و ما جرى هذا المجرى من الأجناس المتفقة بأنفسها، فلما كانت تسميتنا بالفاعل لا توجب جنسيته و لا هيئته لم يوجب تشبها و هذا كقولهم آمر وناه و قائل و معلوم و مذكور، فأما رحيم و رحمن فهما من الرّحمة و بناءان للمبالغة و حقيقة الرحمة النعمة إذا صادفت الحاجة.
و ذكر بعضهم أنّ الرّحمن هو الاسم الذي لاسم القديم سبحانه فيه و ليس كذلك لأنهم قالوا لمسيلمة رحمن، و قالوا أيضا فيه رحمن اليمامة، و ذكر بعضهم أنه لمّا سمعوا النبي صلى اللّه عليه و سلم يذكر الرّحمن قالت قريش: أتدرون ما الرّحمن؟ هو الذي كان باليمامة، و إذا كان كذلك فما بقي إلا أن يكون لفظة اللّه هي التي لا سمّي فيها، فإن قيل: فقد نرى الفاعل هيئته يخالف‏ هيئة من ليس بفاعل و القائل منا له هيئته السّاكت، قيل له: لم تخالف هيئته هيئة السّاكت بالقول و إنما خالفت هيئاتهما بالسكون الذي في شفتي السّاكت و بالحركات التي في لسان المتحرك، لا بالكلام، فإذا كان اللّه يفعل الكلام و الأمر و النهي من غير أن تحل فيه حركة صحّ أنه لا تكون تسميتنا إياه آمرا و ناهيا أو متكلما تشبيها. و على هذا قولنا: العالم و الحي و القادر و السميع و البصير لأن شيئا من ذلك لا يوجب تجنيسا و لا تركيبا و لا هيئة، فإن قال: أليس العالم في الشاهد يحل العلم فيه أو في بعضه، و كذلك الحي فلم زعمتم أن الحيزين لا يشتبهان لحلول الحياة فيهما؟ قلت: إن الحياة ليست بهيئة لهما فيشتبهان بها عند حلولها فيهما، و لو كانا مشتبهين بسائر هيئاتهما، فإن قال: فيلزمكم أن لا يكون من وصف اللّه تعالى بأنه يحله العلم و الحياة مشتبها بخلقه، قيل: ليس هو بهذا القول مشبها، و لكن بتجويزه حلول الأعراض فيه يكون مشبها لأن ذلك يرجع إلى الهيئة.
و اعلم أنّ الصفة قد تجري على الموصوف من وجهين في أحدهما: يجب له عن اختصاص و استبداد فيكون للذّات و يقترن بما لم يزل و في الثاني: يقصر غايته فنقف دون موقف الأول، و ذلك كقولنا: بصير و مبصر لأنهما للذات، إلّا أنّ مبصرا يتعدى إلى مبصر موجود، و لذلك لم يجز أن يقال لم يزل مبصرا، كما قيل: لم يزل بصيرا و على هذا قولك رأى يتصرف على وجهين.
فإن أريد أنه عالم قلت لم يزل اللّه رائيا و إن أريد أنه مبصر للمبصرات امتنع منه؛ لأنّ المرئي المدرك لا يكون إلا موجودا، و على هذا قولك الصّمد إن جعلته بمعنى السّيد قلت لم يزل اللّه صمدا، و إن قلت هو من الصّمد إليه من العباد و القصد امتنع أن يقال لم يزل صمدا.
و مثله كريم يراد به العز فيقال: لم يزل كريما و هو أكرم عليّ، و يراد به الإفضال فيكون من صفات الفعل، و مثله حكيم يكون بمعنى عالم فيقال لم يزل حكيما و إن أريد به أنه يحكم الفعل لحق بصفات الفعل، و الصفات المستحقة من طريق اللغة الحقيقية و المجازية فإنها تجري عليه تعالى متى لم يمنع مانع من جهة العقول و الشّرع، فإن التبس الحال يختار الأكرم فالأكرم و الأبعد من التشبيه فالأبعد، و ذلك لمجانبتنا لأنّ نصفه بأنه يعقل أو يحس أو يفقه و يستبصر و يتيقن أو يفطن أو يفهم أو يشعر لما تتضمنه هذه الألفاظ من الأحوال التي حصولها لا يليق باللّه تعالى.
فإن قيل: هو شاهد و شاهد كل نجوى و قريب مجيب و مطّلع على الضّمائر قلت:
أجرينا عليه هذه الألفاظ مجازا و توسعا و لأنها بكثرة دورانها في ألسنة السّلف الصالح، و الإشارة بها إلى ما لا يخيل و لا يلتبس من القصود السّليمة انتفى عنها ما يلابس غيرها من‏ كل موهم، و لمثل هذا أجرى قوي في صفة مجرى القادر و امتنع في شديد و متين و ما أشبهه من أن يجري مجراه، فأما قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏ [سورة البقرة، الآية: ۱۵] و سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ‏ [سورة التوبة، الآية: ۷۹] و ما جرى مجراه فمثله في البلاغة يسمى المجانسة و المطابقة و هو ضرب من المجاز سمّي الثّاني فيه بالأول ليعلم أنه جزاؤه و قد أجرى إلى مثله، و المعنى يجازيهم جزاء الاستهزاء و السّخرية و نحو قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى، الآية: ۴۰] و الثاني لا يكون سيئة.
فإن قيل: فهل يجري التهاتف و التّهكم مجرى السخرية فتجيزه عليه اتساعا؟ قلت: لا يجوز ذلك؛ لأن المجاز لا يقاس، أ لا ترى أنّ أرباب اللغة مجمعون على أنه لا يجوز سل الجبل، و إن جاء سل القرية، و مثل هذا قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ [سورة النور، الآية: ۳۵] و امتناعنا من بعد من أن تقول اللّه سراج السموات، أو شمسها أو قمرها إذ كانت المجازاة لها انتهاء تجاوزها إلى ما ورائها محظور، هذا مع توافق الصفات، فكيف إذا اختلفت؟ و يقارب هذا قولهم في اللّه لطيف و رحيم، و المراد به الإنعام، ثم امتنعوا فيه من رفيق و مشفق لرجوعهما إلى رقة القلب و استيلاء الخوف، فأما الغضب و السخط و الإرادة و الكراهة و الحب و البغض و الرضاء و الطالب و المدرك و المهلك فمن صفات الفعل، و اللّه يحدثها لا في مكان إذ كان جميعها لا يوجب تصويرا و لا تهيئة و لا تركيبا، و إنما تفيد عقابا للمكلفين أو إثابة أو إيجابا لإيقاع الفعل، أو نفيا له و إذا كانت كذلك انتفت عن المحال على أنه لو أحدثها في المحال لعادت المحال الموصوفة بها.
فإن قيل: فهل يجوز أن تقع منّا إرادة لا في محل؟ قلت: لا و ذلك أنّ أفعالنا تقع مباشرة، أو متولدة عن مباشرة، فلا بدّ لها من محل و أفعال اللّه تعالى بخلافها. فإن قيل:
هل يجوز أن يوصف اللّه بأنه راع، و أنه خفير، و حارس كما وصف بأنه رقيب و حافظ؟
قلت: قد جاء رعاك اللّه و حرسك و حاطك في دعاء المسلمين و معانيها صحيحة، لكن بناء اسم الفاعل منها في صفاته لم يجي‏ء و هم يستغنون بالشي‏ء عن شبهه في اللغة، فيذهب عن الاستعمال و مع ذلك فوصفه يجب أن يكون كريما، و لفظة الحارس و الرّاعي و الحائط ليس مما يستكرم فيقرن بيا للاختصاص، فيقال يا حارس أو يا راعي، أو يا حائط و مما ينفر منه فيترك قول القائل في اللّه يا معلم و إن كان قد جاء الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ‏ [سورة الرحمن، الآية: ۱- ۲] لاشتهاره في صفات المحترفين به، على أنّ الفرق بين ما يجعل إخبارا و بين ما يجعل خطابا و يصدر بحرف النّداء ظاهر. و إذا كان كذلك فلفظ الخطاب بيا كالمترجم عن تواضع وفاقة فيجب أن يختار معه من الصّفات ما يؤكّد الحال و يحرّر السؤال و يشبه ما نحن فيه أنّهم قالوا في صفاته علّام الغيوب. ثم امتنعوا من علامة و إن كانت تاء التأنيث زائدة في المبالغة لما يحصل في اللّفظ من علامة التأنيث و لا تنحط رتبته عن رتبة التّذكير. و لأنهم جعلوا اللّفظ مؤنثا لاقتران علامة التأنيث فقالوا للبيضتين الاثنيان، و وصف بعضهم المنجنيق و هو مؤنث في اللّغة فقال و كل أنثى حملت أحجارا، فأمّا الخفير فمعناه لا يصح على اللّه لأنه من السّتر و منه خفرت المرأة.
و قول القائل ثابت في صفة اللّه قليل الاستعمال و معناه صحيح فيه و هو الكائن الذي ليس بمنتف، و قولهم: وتر، و فرد و فذ جميعه جائز عليه لأنّ معناه معنى التّوحيد، إلا الفذ، لأن معناه القلّة. و قولهم إبراهيم خليل اللّه فمعناه الاختصاص، و لا يقال اللّه خليل إبراهيم، لأنّه يخص اللّه بشي‏ء و لا يقاس الصّديق و لا الوامق و لا العاشق على الخليل، و لا على المحب، و لا يوصف اللّه بالكامل، و لا الوافر لأنّ معناه الذي تمّت أبعاضه و توفّرت خصاله و لا يوصف اللّه بالفرح، لأن الفرح إنما يجوز على من يجوز عليه الغم على أنه مع ذلك متناوله مذموم و ليس كالسّرور. يدل على ذلك قوله تعالى: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [سورة هود، الآية: ۱۰] و مما يقلّ استعماله وصفه بالسّار و البار، و إن كان معناهما صحيحا إذا كان تعالى يسر أولياءه و يبرّهم سمعه و طوله.
فإن قيل: أفيجوز أن يقال في اللّه تعالى: إنه يمكنه أن يفعل، و يستطيع أن يفعل و يطيق أن يفعل؟ قلت: كلّ ذلك جائز إلا قولك: يطيق أن يفعل، لأن الطّاقة استفراغ الجهد فيما يقصده الإنسان و قوله تعالى: ذِي الطَّوْلِ‏ [سورة غافر، الآية: ۳] حسن جائز لأن معنى ذو الطّول و له الطّول واحد فاعلمه.
و اعلم أنّ قول القائل: ما زال زيد يفعل كذا من العبارات الدّاخلة على المبتدأ و الخبر يفيد الزّمان دون الحدث، و إذا كان كذلك فزيد هو الذي كان مبتدأ و هو المخبر عنه، و الخبر ما بعده، و لا يستقل بنفسه كما أنّ المبتدأ لا يستقلّ بنفسه و ما زال مثل كان و أصبح و أمسى في أنه أفاد الزّمان، إلا أنه بدخول حرف النفي عليه عاد إلى الإثبات، لأن نفي النّفي إثبات، و ممّا صدّر بحرف النفي من إخوانه ما برح و ما فتى‏ء، و ما انفك، و قال سيبويه: تقول زايلته مزايلة و زيالا و التزايل تباين الشي‏ء، و زيلت بينهم فرقت.
فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: ما زال زيد يقطع الكلام به، و المراد ثبت زيد. قلت:
إن أخرجته من جملة العبارات الدّاخلة على المبتدأ و الخبر و جعلته فعلا تاما يستغني بفاعله، و يفارق ما لا يتم إلا بخبره، لم يمتنع ذلك فيه، و حينئذ يصير مثل كان الذي يفسر يحدث و جاء في القرآن: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ [سورة البقرة، الآية: ۲۸۰] و على هذا قوله تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ‏ [سورة يوسف، الآية: ۸۰] لأن تقديره لن أبرح من الأرض لأن برح لا يتعدى مثل زال، و الأرض مخصوص لا يكون ظرفا، و هذا غير المستعمل في قولهم لم يزل اللّه واحدا سميعا بصيرا، و مثله أصبح الذي يمثل باستيقظ، و أمسى الممثل بنام.
و قد فسّر سيبويه ما برح بما زال، و لم يجعله من البراح إيذانا بالفرق بين ما جعل عبارة و بين غيره، و قال تعالى: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [سورة طه، الآية: ۹۱] و في موضع آخر: وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ‏ [سورة الكهف، الآية: ۶۰] و المعنى لا أزال أسير حتى أبلغ، و لو جعل من البراح لدافع قوله حتى أبلغ، لأنّ الثّابت في موضعه لا يكون متبلغا، و مما يشرح هذا الذي قلناه امتناعهم من قول القائل: ما زال زيد إلا كذا حتى ردّوا على ذي الرّمة قوله:
حراجيح ما تنفكّ إلا مناخة على الخف أو ترمي بها بلدا قفرا
و قالوا الاستثناء ممتنع هنا و إنّما هو حراجيح ما ينفك مناخة أي لا يزال شخوصا مجهودة، و حمل إلا على الكثرة و الجنس، و منهم من قال: ما تنفكّ من قولهم فككته فانفكّ كأنه يخرجه من أن يكون مما يدخل على المبتدأ و الخبر، و يجعله مستقلا بفاعله مثل كان التامة، و يكون المعنى لا ينخل قواه إلا في هذه الحالة و على هذا ما فتى‏ء و في القرآن:
تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ‏ [سورة يوسف، الآية: ۸۵] أي لا تفتؤ و لا تزال.
فإن قال قائل: فهل يجوز أن يوصف اللّه تعالى بأنه ذخر و سند؟ قلت: هذا لا يكون إلا مجازا و ما لا يجب من جهة الحقيقة لا يجوز عندنا وصف القديم به إلّا إذا كثر في كلام أهل الدين و أخبار أرباب اللغة فيصير تبعا فيه لهم، و ذلك أنّ الذّخر ما يذخره الإنسان و يحرزه لنفسه و ليوم حاجته، و يكون في الوقت كالمستغني عنه فيقال: أذخر هذا لطوارق الزّمان و نوائب الدهر و الأيام و على هذه الطريقة لا يجوز ذلك على اللّه لأنّ الحاجة إليه دائمة فهذا في الذّخر و كذلك السند في الحقيقة هو ما أسند الإنسان إليه ظهره و اللّه متعال عن هذه الصفة. فإن قيل: فهل يجوز أن يوصف اللّه بأنه نجي و ولي؟ قلت: النجّي فعيل و يراد به الذي يناجي، و وصف به الجمع في قوله تعالى: خَلَصُوا نَجِيًّا [سورة يوسف، الآية: ۸۰] و إن كان على لفظ الواحد كما جاء فعول في قوله تعالى: عَدُوٌّ لِي [سورة طه، الآية: ۳۹] و إذا كان كذلك فليس هو كالنكير و النّذير لأنهما مصدران، و لكنّه بمنزلة العلي و الولي و نحوه مما يكون، و الوالي و الولي بمعنى واحد، قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة، الآية: ۲۵۷] و قال تعالى: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ‏ [سورة الرّعد، الآية: ۱۱]، و كذلك النجّي و مثله الصّديق و الخليط في أنه بلفظ الواحد و وصف به الجمع، و قوله: إني إذا ما القوم كانوا أنجيه. فأنجيه كقولهم كثيب و أكثبة و رغيف و أرغفة شبه الصفة بالاسم فكسرت تكسيره‏ و قوله تعالى: وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ [سورة الإسراء، الآية: ۴۷] وصف بالمصدر كما وصف بالعدل و الرضى، و إذا كان الكلام بيانا عن المعاني فعلى المتكلم أن يبيّن المعاني التي يخبر عنها بكلامه و إلا كان بمنزلة من يلغز و يعمّي كلامه لئلا يفهم، و فاعل هذا مختار عابث فأما قولنا: وكيل علينا أي متول لأمورنا و قائم، بحفظنا و نصرتنا، و لا يجوز أن يقال: وكيل لنا لأنّ الوكيل لنا هو النائب عنّا و خليفتنا فيما يليه لنا فأما قولنا: توكلّنا على اللّه، فليس من الوكالة في شي‏ء و إنما معنى يتوكل يلتجى‏ء و يعتمد و إذا كان كذلك فإنّا نقول: اللّه وكيل علينا، و لا نقول: متوكّل علينا.
فإن قيل: كيف جاز مجي‏ء تفعل و تفاعل في صفاته و ممّا من أبنية التكلّف و التكّلف لا تجيزه على اللّه. قلت: قوله المتكبّر و الكبير المتعالي في صفاته كالكبير و العالي و المباني كما يتفرد بالمعاني أو يكثر مجيئها لها فإنها قد تتداخل و تتشارك حتى لا تمايز و لا تباين، و إذا كان كذلك فقول القائل تعلى و تعالى و علا بمعنى واحد قال: (تعلّى الذي في متنه و تحدّرا) بمعنى علا و حدر و قال شعرا:
و مستعجب مما يرى من إناتنا و لو زينة الحرب لم يترمرم‏
بمعنى عجب. و قال أوس:
و قد أكلت أظفاره الصّخر كلّما تعايا عليه طول مرقي توصّلا
بمعنى أعيى، و هذا كثير ظاهر فاعلمه. و منه قوله تعالى: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏ [سورة الأعراف، الآية: ۱۶۷] بمعنى آذن. و اعلم و قد انتهى هذا الباب و كمل بما ضمّ إليه من أخبار الرّسول صلى اللّه عليه و سلم و غيرها، جامعا إلى الوفاء بما وعدته و مجيئه على المثال الذي خططته، أني لم آل جهدا في اختيار ما كانت الحاجة إلى بيانها أمس، و النّفس إلى تبينها أتوق، حتى بلغ حدا يمكن الاستعانة به، مع أدنى تأمّل على فتح كثير مما يستغلق من نظرائه، و كلّ ذلك بعون اللّه و حسن توفيقه، و أنا الآن مشتغل بالباب الثّاني و الكلام في حقيقة الزّمان و المكان، و الرّد على من تكلّم بغير الحق فيهما و اللّه بحوله و قوّته يعين على بلوغ ما نعرب منه و هو حسبنا و نعم الوكيل.



الباب الثاني في ذكر أسماء و معان للزّمان و المكان‏ و متى تسمّى ظروفا، و معنى قول النّحويين الزّمان ظرف للأفعال، و الرّد على من قال في بيانهما بغير الحق من الأوائل و الأواخر.

و هذا الباب يشتمل على ما ذكر ماهية الزّمان و المكان و حكاية أقوال الأوائل فيهما، محقّهم و مبطلهم و إبطال الفاسد منها و ما يتعلق بذلك و فصوله أربعة:...

فصل في ماهية الزّمان‏
ذكر بعض القدماء أن الزمان هو دوران الفلك، و قال أفلاطون: هو صورة العالم متحركة بعد صورة الفلك. و قال آخر: هو مسير الشّمس في البروج حكى جميع ذلك النّوبختي، و وجوه هذه الأقوال تتناسب. و حكى أبو القاسم عن أبي الهذيل أنّ للزمان مدى ما بين الأفعال، و أنّ اللّيل و النّهار هما الأوقات لا غيره. و زعم قوم أنه شي‏ء غير اللّيل و النّهار، و غير دوران الفلك، و ليس بجسم و لا عرض، ثم قالوا: لا يجوز أن يخلق اللّه شيئا إلّا في وقت، و لا يفنى الوقت فيقع أفعال لا في أوقات، لأنه لو فني الوقت لم يصح تقدم بعضها على بعض، و لا تأخّر بعضها عن بعض، و لم يبين ذلك فيها و هذا محال.
و قال بعض المتكلّمين: الزّمان تقدير الحوادث بعضها ببعض، و يجب أن يكون الوقت و الموقت جميعا حادثين، لأن معتبرهما بالحدوث لا غير، و لذلك لم يصح التّوقيت بالقديم تعالى ثم مثل، فقال: أ لا ترى أنك تقول: غرد الديك وقت طلوع الفجر، و تقول: طلع الفجر وقت تغريد الدّيك، فيصير كلّ واحد من طلوع الفجر و تغريد الدّيك وقتا للآخر و مبينا به للمخاطب حدوثه و هذا على حسب معرفته بأحدهما و جهله بالآخر، لأنّ ذلك في التوقيت لا بدّ منه. و قال المحصّل من النّحويين الزمان ظرف الأفعال و إنما قيل ذلك لأن شيئا من أفعالنا لا يقع إلا في مكان و إلا في زمان و هما الميقات.
قال الخليل: الوقت مقدار من الزّمان و كلّ شي‏ء قدرت له حينا فهو موقت، و كذلك ما قدرت له غاية فهو موقت، قال تعالى: إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [سورة الحجر، الآية: ۳۸] و الميقات مصير الوقت قال تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف، الآية: ۱۴۲] و الآخرة ميقات الخلق و مواضع الإحرام مواقيت الحج و في التّنزيل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِ‏ [سورة البقرة، الآية: ۱۸۹] و الإهلال ميقات الشّهر و في القرآن: وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ‏ [سورة المرسلات، الآية: ۱۱- ۱۲] و إنما هي وقّتت و يقال: وقت موقوت و موقت. و الزّمان قد يعلم باسمه. و قد يبين بصفاته، فالأول كالسّبت و الأحد و رمضان و شوّال، و الثّاني كقولك الخميس الأدنى، و الجمعة الآتية، و قد يبين بقرينة تضاف إليه كقولك: عام الفيل، و وقت ولاية فلان. و قد يقصد المتكلم بيان قدر الوقت أو صورته أو اتصاله أو انقطاعه بما يكون نكرة كقولك فعلته ليلا و ثابرت عليه حولا، و أقمت عنده شهرا.
و في الاتصال و الانقطاع يقولون: فعلته ليلا و نهارا أو غدوا و عشيا وزرته ذات مرة و بعيدات بين. فأما قول من قال: هو الفلك بعينه فقد أخطأ، لأنّ الأفلاك كبيرة في الحال و ليست الأزمنة كبيرة في الحال، لأنّ الزّمان ماض و مستقبل و حاضر، و الفلك ليس كذلك، و هذا ظاهر، و ذلك قول من قال: حركات الفلك هي الزّمان لأن أجزاء الزّمان إذا توهّمت كانت زمانا، و أجزاء الحركة المستديرة إذا توهّمت لم تكن حركة مستديرة، و لأنّ الحركة في المتحرّك و في المكان الذي يتحرّك إليه المتحرّك، و الزّمان ليس هو في المتحرّك و لا في المكان الذي يتحرك إليه المتحرّك، بل هو في كل مكان ثم قد يكون حركة أسرع من حركة، أ لا ترى أنّ حركة الفلك الأعلى أسرع من حركة زحل و البطء و السّرعة لا يكونان في الزّمان لأنّ الحركة السّريعة هي التي تكون في زمان يسير و البطيئة هي التي تكون في زمان كثير.
و حكى حنين بن اسحاق عن الاسكندر أنه قال في حد الزمان: إنه مدة بعدها حركة الفلك بالمتقدّم و المتأخر. قال و العدد على ضربين: عدد يعدّ غيره و هو ما في النفس، و عدد يعدّ بغيره، و الزّمان مما يعد بغيره و هو الحركة لأنّه على حسبها و هيئتها و كثرتها و ثباتها، و إنما صار عددا من أجل الأول و الآخر الموجودين في الحركة، و العدد فيه أوّل و آخر فإذا توهّمنا الحركة توهّمنا الزّمان، و إذا توهّمنا الزّمان توهّمنا الحركة، و إنّما صار عدد حركة الفلك دون غيرها لأنه لا حركة أسرع منها، و إنما يعد الشي‏ء و يذرع و يكال بما هو أصغر منه. قال: و الزّمان عدد و إن كان واحدا لأنه بالتّوهم كثير فيكون أزمنة بالقوة و الوهم لا بالوجود و العمل.
و هذا يقارب ما حكاه أبو القاسم عن أبي الهذيل في حدّ الزمان، لأن قوله: مدى ما بين الأفعال، و إن اللّيل و النّهار هما الأوقات إذا حصل يرجع إلى معنى قوله مدة بعدها حركة الفلك بالمتقدّم و المتأخّر، و إن كان لفظ أبي الهذيل أجزل و أغرب، أ لا ترى أنّ الاسكندر قال: و البرهان على أن الزّمان ليس بذي كون و لا ابتداء و لا انتهاء و الفرقة التي زعمت أن الزّمان شي‏ء غير اللّيل و النّهار، و غير دوران الفلك، و ليس بجسم و لا عرض إلى آخر الفصل، فإنّا سنتكلم به على الملاحدة و الخارجين من التّوحيد إلى وراء التشبيه إن شاء اللّه تعالى.
اعلم أن العبارة عن الوقت قد حصلت من القديم تعالى و لا فلك يدور و لا شمس في البروج تسير، و عبر أيضا عن أوقات القيامة فمرة قال تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج، الآية: ۴] و مرّة قال تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [سورة السجدة، الآية: ۵] و قال تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة الحديد، الآية: ۴] و قال تعالى في صفة أهل الجنّة: وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا [سورة مريم، الآية: ۶۲] و لا بكرة ثم و لا عشية، فجميع ذلك أجري لأوقات مؤقتة لمعاني قدّرها اللّه تعالى على أحوال رتّبها و مراتب صورها فمنها ما هو أطول، و منها ما هو أقصر، على حسب آماد الأمور المقدورة فيها، فمثّل كلّا بما تقرّر به النفوس غايته و أمده و مقداره و موقعه ممّا كنّا نعرفه و نألفه و نشاهده و نتصرّف فيه، و إذا كان الأمر على ما ذكرنا و حصل من الحكيم التّوقيت على ما بيّنا ظهر كثير من عاداتهم فيه و أنهم تخيّروا ما كان في الاستعمال أبين و في العرف أمتن، و على المراد أدل، و في التّمثيل أنبّه و أجل.
و اعلم أنّ الحادث متى حصل فقد حصل في وقت، و المراد أنه يصحّ أن يقال فيه: إنه سابق لما تأخر عنه، و إنّ وقته قبل وقته، أو متأخر عما تقدّمه و إنّ وقته بعد وقته أو مصاحب لما حدث معه، و إنّ وقته هذا هو المراد فقط، و لسنا نريد أنه حدث معه شي‏ء سمّي زمانا له، أو سبقه أو احتاج في الوجود إليه، فلو تصورنا أوّل الحوادث و قد اخترعه اللّه مقدّما على المحدثات كلّها لصلح أن يقال فيه: إنه سابق لها و إنه أول لها، و هذا توقيت، و لو تصوّرنا أنه بقي مفردا بعد حدوثه لم يتبع بغيره لكان يصح تقدير هذا القول فيه و توهّمه، إذ كان اللّه تعالى قادرا على الإتيان بأمثاله و أغياره معه و قبله و بعده.
و هذا معنى قول النّحوي: الفعل ينقسم بانقسام الزّمان ماض و مستقبل و حاضر، و إذا كان الأمر على هذا فقد سقط مؤنة القول في أنّ الوقت حادث لا في وقت، و أنه لو احتاج الوقت إلى وقت لأدّى إلى إثبات حوادث لا نهاية لها. و أما من قال: إنّ الزّمان تقدير الحوادث بعضها ببعض و تمثيله بأن القائل يقول: غرد الديك وقت طلوع الفجر، و طلع الفجر وقت تغريد الديك فإنّ كل واحد من التّغريد صار وقتا للآخر، فإنّه جاء إلى فعلين وقعا في وقت واحد، فعرف الوقت مرة بالإضافة إلى هذا، و جعل ذلك الآخر موقتا به، و مرة بالإضافة إلى ذلك، و جعل هذا مؤقتا به، و لم يتعرّض للزّمان و كشف حده و ضبطه و هذا كما يقال: حججت عام حج زيد و حج زيد عام حججت.
و من الظاهر أن العام غير الحجين و أنهما إنما وقعا فيه، و هذا بيّن على أن ما أتى به و اشتغل بتمثيله هو من قبيل ما يكون زمانا و هو ما يصلح أن يكون واقعا في جواب متى و لم يستوفه أيضا، و ترك ما يخرج في جواب كم رأسا، و ذلك كقولهم: يصوم زيد النّهار و يقوم اللّيل، و ما فعلته قط، و لا أفعله أبدا، و أقمت بالبلد شهرا و هجرت زيدا يوما إلى كثير مما ستراه في أبواب هذا الكتاب و فصوله.
و اعلم أنّ الزمان و إن كان حقيقة ما ذكرنا، فإنّ الأمم على اختلافها أولعوا في التّوقيت بذي اللّيالي و الأيام، و الشّهور و الأعوام، لما يتعلّق به من وجوه المعاملات و الآجال المضروبة في التجارات، و من تقرير العدات، و إدراك الزّراعات، و آماد العمارات، و من فعل أهل الوبر في المحاضر و المزالف و المناجع و المجامع، و إقامة الأسواق، و توجيه المعاش، و من اشتغال أرباب النّحل بما افترض عليه عندهم من تقرّب و عبادة، و دعوا إلى الأخذ به في دينهم من فرض و نافلة، و أمروا بالتوجه إليه من سمت و قبلة، و لما أجرى اللّه‏ تعالى العادة به فيه من حدوث حر و برد، و جزر و مد، و تبدّل خصب و جدب، و رخاء عيش و بؤس، و من ظهور نبات و أوان لقاح، أو ولاد و صبوب أمطار و هبوب أرواح لذلك قال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «تعلّموا من النّجوم ما تعرفون به ساعات اللّيل و النّهار، و هداية الطّرق و السّبل» فقدّر أكثر الناس أنّ الزّمان لا يكون غيرها و لا يعدوها إلى ما سواها، و لهذا الّذي تبينته، أو أشرت إليه ذكر أبو الهذيل بعد تحديد الزّمان اللّيل و النّهار هما الأوقات لا غير.
و اعلم أنّ الذين زعموا أن الزّمان شي‏ء غير اللّيل و النّهار، و غير دوران الفلك و ليس بجسم و لا عرض، ثم قالوا: لا يجوز أن يخلق اللّه شيئا إلّا في وقت و لا يفنى الوقت، فيقع أفعال لا في أوقات لأنه لو فني الوقت لم يصح تقدّم بعضها على بعض و لا تأخّر بعضها عن بعض، و لم يتبيّن ذلك فيها، و هذا محال قولهم داخل في أقوال الذين يقولون: إن الزّمان و المكان المطلقين، و يعرب عنهما عند التّحقيق بالدّهر و الخلاء جوهران قائمان بأنفسهما، و الكلام عليهم يجي‏ء بعد تنويع فرقهم و بيان طرقهم فنقول: باللّه الحول و القوة من زعم أنّ الأزلي أكثر من واحد أربع فرق:
الأولى: الذين يقولون هما اثنان الفاعل و المادة فقط و يعني بالمادة الهيولى.
الثانية: الذين يدّعون أنّ الأزلي ثلاثة الفاعل و المادّة و الخلاء.
الثّالثة: الذين يدّعون أنه الفاعل و المادة و الخلاء و المدّة.
الرّابعة: الفرقة التي زعيمهم محمد بن زكريا المتطبب لأنه زاد عليهم النّفس الناطقة، فبلغ عدد الأزلي خمسة بهذيانه.
و شرح مذهبهم أنه لم يزل خمسة أشياء، اثنان منها حيّان فاعلان و هما: الباري و النفس، و واحد منفعل غير حي و هو الهيولى الذي منه كوّنت جميع الأجسام الموجودة، و اثنان لا حيّان و لا فاعلان و لا منفعلان و هما الخلاء و المادة، إلى خرافات لا تطيق اليد بيانها بالخط، و لا اللّسان تحصيلها باللّفظ، و لا القلب تمثيلها بالوهم، فمما يزعمه أن الباري تام الحكمة لا يلحقه سهو و لا غفلة، و تفيض منه الحياة كفيض النّور عن قرصة الشّمس، و هو العقل التام المحض، و النفس تفيض منه الحياة كفيض النور، و هي مترجّحة بين الجهل و العقل كالرّجل يسهو تارة، و يصحو أخرى، و ذلك لأنها إذا نظرت نحو الباري الذي هو عقل محض غفلت و أفقت، و إذا نظرت نحو الهيولى التي هي جهل محض غفلت و سهت، و أقول متعجبا لو لا الكرى لم يحلم و هذا كما قال غيري، أليس من العجائب هذيانه في القدماء الخمسة، و ما يعتقده من وجود العالم لحدوث العلّة و ما يدّعيه من وجود الجوهرين الأزليين أعني الخلاء و المدّة لا فعل لهما و لا انفعال، فلولا خذلان اللّه إياه، و إلا فماذا يعمل بجوهر لا فاعل و لا منفعل؟! و لم يضع الأرواح المقدّسة قبالة الأرواح الفاسدة، و لم يحدث العلة من غير نقص و لا آفة و لم يذكر شيئا ليس فيه جدوى و لا ثمرة و هذا الفصل إذا أعطي مستحقّه من التّأمل ظهر منه ما يسقط به سخيف كلامهم، و إن لم يكن مورده مورد الحجاج عليهم. أ لا ترى أنّ من لم يثبت القديم تعالى فيما لم يزل واحدا لا ثاني له، و عالما بالأشياء قبل كونها و بعده، و قادرا على كل ما يصح أن يكون مقدورا، وحيا لا آفة به، و غنيا لا حاجة به إلى غيره في شي‏ء من إرادته، و حكيما لا يبدو له في كل ما يأتيه و يفعله، فننقل إلى ما هو أعلى منه، بل لا يفعل إلا ما هو حسن و واجب في الحكمة و الصوّاب، فقد جعله قاصرا ناقصا، تعالى اللّه و جلّ عن صفات المخلوقين، و هذا كما أنّ من الواجب أن يعلم أنّ القديم لو لم يبدع العالم أصلا لاستحال أن يتوقّف على وجوده، أو يتوصل إلى إثباته، لأن ذاته لم تكن ظاهرة للعيان، و لا مستدركا بالحواس، و أنّ الشي‏ء قد يصح إثباته من طريق أفعاله كما يصح إثباته من جهة ذاته، و الأسباب و إن كانت متقدمة لمسبباتها بالوجود فلا يمتنع أن يكون في العقول أسبق إلى الوضوح.
و إذا كان كذلك فالعالم بثبات هذا العالم المحسوس موصول إليه من طريق الإدراك و المشاهدة، و العلم بصانعه من طريق النّظر و المباحثة، و قد تكلّم الناس في المعرفة باللّه تعالى و اختلفوا فزعم قوم أن المعرفة لا تجب على القادر العاقل و أنها تحدث بإلهام اللّه، فكل من لم يلهمه اللّه المعرفة فلا حجة عليه، و لا يجب عليه عقاب، لأن عذر من ترك الشي‏ء لأنه لم يعلم كعذر من ترك الشي‏ء لأنه لا يقدر عليه، و الذي يدل على أن المعرفة لا تكون ضرورة لأنا يمكننا التشكك فيه. أ لا ترى أنه كلما اعتقدنا الشي‏ء بدليل فاعترضت شبهة في أصل الدّليل يخرج من العلم بذلك الشي‏ء حتى تثبت حجّة بمحل تلك الشّبهة، و لو كانت بالضّرورة لم يكن التّشكك، و كان العقلاء كلّهم شرعا واحدا في العلم، كما صاروا شرعا واحدا في أخبار البلدان المتواترة عليهم، فبان بذلك أنها ليست بضرورة، و أكثر الناس على أنها واجبة و هي من فعل الإنسان، و إنما يقع أوّلها متولّدا عن النّظر.
قال البغداديون مستدلين: لا يخلو من أن يكون قد كلّفنا اللّه معرفته أو لا يكون كلّفنا و تركنا مهملين، و تركنا سدى، و إهمالنا لا يجوز عليه و يقال لهم في ذلك: إنّ الإهمال هو تضييع ما يلزم حفظه، و ترك مراعاة ما يجب مراعاته، ألا ترون أنّ من لم يحفظ مال غيره لا يقال أهمله، لما كان لا يلزمه حفظه فثبتوا أولا أن المعرفة باللّه واجبة، ثم ادّعوا الإهمال إذا لم يكلفناها. و قالوا أيضا: نحن نرى على أنفسنا آثار نعم و نعلم وجوب شكر المنعم، فإذا يجب أن يعرف المنعم لشكره.
فإن قال قائل: فهل يجوز أن نعلم القديم تعالى من طريق الخبر؟ قلت: لا، لأنّ الخبر على قسمين: فمنه ما يضطر السّامع إلى العلم بالمخبر به كالخبر عن البلدان و الأمصار، و قد علمنا أنه لا يجوز أن نعلم اللّه من هذه الجهة، لأنا وجدنا العقلاء يشكون من أنّ لهم صانعا مع إخبار المخبرين به، و لو كان يعلم من طريق الخبر لكان لا فرق بين خبر من زعم أنّ الصّانع واحد و بين من قال اثنان أو ثلاثة، على أنّ الخبر إنّما يضطر إذا كان المخبر يخبر عن مشاهدة، لأنه لا يجوز أن يكون حال المخبر يعلم ضرورة و من الخبر ما يعلم من طريق الاستدلال، كخبر النبي صلى اللّه عليه و سلم، و لا يجوز أن يعلم اللّه من هذه الجهة، لأنّ القائل بهذا القول أحد رجلين، إمّا أن يقول لا يعلم اللّه إلا من جهة الخبر، فيلزمه أن يكون النبي لا يعرف اللّه إلّا بنبي آخر و ذلك يوجب التّسلسل إلى ما لا نهاية، و إمّا أن يقول: إنه يعلم من جهة النبي و من جهة أخرى أيضا، و هذا فاسد لأنه ليس في النبيّ أكثر من إظهار المعجزات و المعجزات لا تدل على حكمة فاعلها، فكيف يكون خبر النبي طريقا إلى العلم باللّه و إذ قد ذكرنا وجوب معرفة اللّه تعالى و الطريق إليه هاهنا، و ممّا تقدّم فإنّنا ننكر الكلام على الملحدة و المتحيرين.

فصل [في بيان أنواع الضّلال‏]
اعلم أنّ أنواع الضّلال ثلاثة: المعاندة و الحيرة و الجهالة.
فالمعاندة على الإطلاق ينبغي أن لا يحصل لأحد منّا علم حقيقي و لا معرفة تفضي إلى يقين، و إنما هي ظنون و خواطر لا تسكن النّفس إليها، و تسميتنا لها و لأمثالها بالعلوم توسع و مجاز. و الوجه في مدافعتهم أن يقال لهم: أتقولون ما ذكرتم عن خلوص علم، أو تسلط ظن؟ فإن ادّعوا العلم فقد ناقضوا، و إلّا حصلوا على عناد، و قد ذكر أبو عثمان الجاحظ في الكفار الذين قتلهم النبي صلى اللّه عليه و سلم أنّهم كانوا عارفين باللّه معاندين.
و اعترض عليه فقيل: إنّ العناد يجوز على العدد اليسير، فأمّا الجماعة الكثيرة فلا يصح عليها ذلك، و نحن نعلم من أنفسنا و قد كنا على مذاهب فتركناها لفسادها أنّا لم نكن في حال اعتقادنا معاندين و لا كاذبين لأنفسنا، و إنّما تركنا الاستدلال، فكذلك أولئك الكفار قد علموا فيما أظهره النبي صلى اللّه عليه و سلم أنها معجزات، لكنهم تركوا الاستدلال بها على ثبوته و صدقه.
و المتحيرون هم الذين يزعمون أنّ العلم بالمحسوسات قد يصح، و لكن ما عداها مما يحال فيه على العقل نحن شاكون فيه و متوقفون، و الكلام عليهم طريقه أن تقلب عليهم نفس ما أوردوه فيقال: تدفعون مقتضيات العقول بالمشاهدات أو بحجج العقول و لا فلاح لهم أي الطّريقين سلكوا. و الجاهلون الملاحدة و الخارجون من نور التّوحيد و الاستقامة إلى ظلمة الشّرك فرق، و الضّلالة في عددهم في ازدياد و وفور، و إفسادهم وجوه و فنون و قد فسّرت فقيل: ربما كانت من الحضانة و التربية و قلة الخواطر و غباوة الخليط و جهد المجاورة، و ربّما كان من تعظيم الأسلاف، أو من وجه الآلاف، أو من غباوة الدّاعية و نسل صاحب المقالة، و كونه صاحب سن و سمت و إخبات و طول صمت، و للّه تعالى الحجّة البالغة عليهم، و على طوائف المبتدعة من أهل الصّلوة على اختلاف أهوائهم، و سيعلم الجافي على نفسه كيف ينقلب و قد فاته الأمر. ذكر بعضهم حاكيا عن قوم من الأوائل، أنّ الدّهر و الخلاء قائمان في فطر العقول بلا استدلال، و ذاك أنه ليس من عاقل إلا و هو يجد و يتصور في عقله وجود شي‏ء للأجسام بمنزلة الوعاء و القراب، و وجود شي‏ء يعلم التقدم و التأخّر، و أنّ وقتنا ليس هو وقتنا الذي مضى، و لا الذي يكون من بعد بل هو شي‏ء بينهما، و أن هذا الشي‏ء هو ذو بعد و امتداد.
و قال: قد توهم قوم أنّ الخلاء هو المكان، و أنّ الدّهر هو الزّمان، و ليس الأمر كذلك بإطلاق، بل الخلاء هو البعد الذي خلا منه الجسم، و يمكن أن يكون فيه الجسم، و أمّا المكان فالسّطح المشترك بين الحاوي و المحوى، و أما الزّمان فهو ما قدرته الحركة من الزّمان الذي هو المدة غير المقدرة، فصرفوا معنى الزّمان و المكان المضافين إلى المطلقين، و ظنوا أنهما هما و البون بينهما بعيد جدا، لأنّ المكان المضاف هو مكان هذا المتمكّن و إن لم يكن متمكنا لم يكن مكانا، و الزّمان المقدّر بالحركة يبطل أيضا ببطلان المتحرك و يوجد بوجوده، إذ هو مقدر حركته، فأمّا المكان بإطلاق فهو المكان الذي يكون فيه الجسم و إن لم يكن، و الزّمان المطلق هو المدة قدّرت أو لم تقدّر، و ليس الحركة فاعلة المدة بل مقدرته، و لا المتمكّن فاعل المكان بل الحال فيه، قال: فقد بان أنهما ليسا عرضين بل جوهرين لأنّ الخلاء ليس قائما بالجسم لأنه لو كان قائما به لبطل ببطلانه، كما يبطل التّربيع ببطلان المربّع.
فإن قال قائل: إنّ المكان يبطل ببطلان المتمكن قيل له: أما المضاف فإنّه كذلك لأنّه إنما كان مكان هذا المتمكّن، فأمّا المطلق فلا، أ لا ترى أنا لو توهّمنا الفلك معدوما لم يمكنا أن نتوهم المكان الذي هو فيه معدوما بعدمه، و كذلك لو أنّ مقدرا قدّر مدة سبت كان، و لم يقدر مدة يوم آخر، لم يكن في ترك التقدير بطلان مدة ذلك اليوم الذي لم يقدر، بل التّقدير نفسه، فكذلك ليس في بطلان الفلك أو في سكونه ما يبطل الزّمان الحقيقي الذي هو المدة و الدّهر، فقد ينبغي أنهما جوهران لا عرضان، إذ كانا ليسا بمحتاجين إلى مكان و لا إلى حامل فليسا إذا بجسم و لا عرض، فبقي أن يكونا جوهرين.
و زاد على هذا الوجه الذي حكيناه بعضهم فقال: طبيعة الزّمان من تأكيد الوجود في‏
ذاتها و قوّة الثّبات في جوهرها، بحيث لا يجوز عدمها رأسا و لم تكن قط معدومة أصلا، فلا بدء لها، و لا انتهاء، بل هي قارة أزلية.
أ لا ترى أنّ المتوهّم لعدم الزّمان لم يخلص له وهمه إلا إذا ثبت مدة لا زمان منها، و المدة هي الزّمان نفسه، فكيف يوهم عدم ما تأكّد لزوم جوهره؟ و يفني العقل الصّحيح تصور عدمه و تلاشيه؟ أو كيف يسوغ إلحاق عدمه بالممكنات؟! و وجوده من الواجبات الأزليات؟ فهذا ما حكي عن الأوائل. و ابن زكريا المتطبّب يحوم في هذيانه عند حجاجه حول ما ذكرناه عنهم و لم يبين بيانهم و لا بلغ غايتهم، فلذلك جعل تابعا لهم و إذ قد أتينا على مآلهم بأتم استقصاد، فإنّا نشتغل بالكلام عليهم، و إن كان فيما قدّمناه قد صورنا خطأهم تصويرا يغني عن مقايستهم و محاجّتهم.
ذكر بعض المنطقيين أنّ الزمان في الحقيقة معدوم الذّات، و احتج بأنّ الوجود للشي‏ء إمّا أن يكون بعامة أجزائه كالخط و السّطح أو بجزء من أجزائه كالعدد و القول، و ليس يخفى علينا أنّ الزّمان ليس يوجد بعامة أجزائه إذ الماضي منه قد تلاشى و اضمحّل، و الغابر منه لم يتمّ حصوله بعد و ليس يصح أيضا أن يكون وجوده بجزء من أجزائه إذ الآن في الحقيقة هو حدّ الزّمانين و ليس بجزء من الزّمان، و كيف يجوز أن يعد جزءا و لسنا نشك أنّ حقيقة الجزء هو أن يكون مقدارا له نسبة إلى كلّه، كأن يكون جزءا من مائة جزء، أو أقل أو أكثر، فأما أن يتوهّم جزء على الإطلاق غير مناسب لكلّه فممتنع محال و ليس الآن في ذاته بذي قدر مناسب لما يفوض من الزّمان الآتي و الماضي، و لو وجد له قدر ما لصلح أن يجعل قدره عيارا يمسح به الكلّ حسب جواز ذلك على كافة ما يعد جزءا من الشّي‏ء و إذا لم يكن الآن في جوهره ذا مقدار أصلا، و الجزء من الشي‏ء لا يجوز أن يعرى من المقدار، فليس الآن بجزء من الزّمان، و إذا كان الأمر على ذلك فالزّمان إذا ليس يصح وجوده لا بعامة أجزائه و لا ببعض أجزائه، و إن شيئا يكون طباعه بحيث لا يوجد بأجزائه كلّها و لا ببعض منها فمن المحال أن يلحق بجملة الموجودات، و إذا كان ذات الزّمان غير موجود أصلا فليس بجائز أن نعده في الكميات، فإنّ ما لا وجود له لا آنية له، و الذي لا آنية له لا يوصف بوقوعه تحت شي‏ء من المقولات.
و قولهم في الزّمان هو المدة التي تفهم قبل و بعد أجلها، فإن كان المراد أنّ قول القائل: قبل و بعد يفيد أنّ تقدّم المذكور و تأخره من غير أن ثبت بهما جوهران ليسا بجسم، و لا يفنيان و لا يجوز أن يخلق اللّه شيئا من دونهما فهو صحيح، و يكون سبيلهما سبيل لفظ مع إفادتهما معنى الصّحبة إذا قلت زيد مع عمرو، و كما تقول للأعيان أحوال ثم لا تصفها بأكثر من تميز بعضها عن بعض بها، و إن أريد بقبل و بعد غير ذلك فقد تقدّم القول في بطلانه.‏
و بطلان ما قالوه في الخلاء و المكان، على أنا نقول معيدين عليهم إن أردتم أنّ المكان يكون المتمكّن و إن لم يوجد الجسم لم يوجد المكان لأنه قائم بالجسم، و ليس بشي‏ء ذي وجود في نفسه فهو صحيح، و إن أردتم للمكان جوهرا يبقى إذا ارتفع المتمكن، و أنّ الذي بطل بارتفاعه هو النّسبة إليه و الإضافة، و يبقى المكان المطلق مكانا كما كان و هو الخلاء الفارغ و ليس فيه جسم فهذا إحالة على شي‏ء لا الإدراك يثبته و لا الوهم يتصوّره. فإن قالوا: المكان حينئذ يكون مكان ما يمكن أن يكون فيه كالزّق الخالي من الشّراب، فإنّه مكان الشّراب الذي يمكن أن يكون فيه.
قلنا: صور في و همنا من الخلاء مثل ما نتصوّره إذا توهّمنا الزّق و الشّراب و ذلك مما لا يقدرون عليه، لأنّ كلامهم فارغ لا يفضي إلى معنى محصل، و أيضا فإنّ الأجسام لا يخلو من أن تكون ثقيلة فترسب، أو خفيفة فتطفو، و الخلاء عندهم ليس بثقيل و لا خفيف، فيلزمهم أن يكون النقطة هي الخلاء لأنّها ليست بثقيلة و لا خفيفة، و يلزمهم على قولهم بأن المتحرك لا يتحرك إلا في الخلاء أن يتحرك أبدا و لا يستقر إذا لم يوجد شي‏ء يضاده أو يسكن دائما فلا يتحرّك إذ لا سبب هناك يوجب تحركه، أو إذا تحرّك في الخلاء أن يتحرك إلى جميع الجهات و لا يختص بجهة دون جهة لأنّ الخلاء كذلك. فإن قالوا: إن الذي تسميّه خلاء هو الهواء، أسقط قولهم بأن الهواء يقبل اللّون و يؤدي الصوّت و الخلاء ليس كذلك و هذا بيّن.
و أعجب من هذا أن الباري مخترع لجميع ما خلقه و أنه لا يعجزه مطلوب و لا ينكاده معلوم، ثم أقاموا معه في الأزل الهيولى و هو المادة، و رتّبوا معه الصورة ليكون جميع ذلك كالنّجار و الخشب و النّجارة و اللّه تعالى يقول: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [سورة فصلت، الآية: ۹] إلى قوله: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏ [سورة فصّلت، الآية: ۱۲] و لم يقل ذلك إلا و أهل العلم إذا فكّروا فيه أدركوا منه الآية البيّنة و الحجّة الواضحة، و بيّنوا أنه ليس في العالم شي‏ء إلا و هو منتقص غير كامل، و ذلك هو الدّليل على أنه مقهور لا يستغنى به، و لا بدّ له من قاهر لا يشبهه و لا يوصف بصفاته على حدّها، لأن ذلك آية الخلق و آية الخلق لا تكون في الخالق.

فصل آخر يزداد النّاظر فيه و العارف به استبصارا فيما وضع الباب له‏

اعلم أنّ الاستدلال بالشّاهد على الغائب هو الأصل في المعرفة بالتّوحيد و حدوث الأجسام لا يعرف ببداهة العقل و لا بالمشاهدة لأنّه لو عرف ذلك لاستوى العقلاء في معرفته كما استووا فيما شاهدوه، و إنما يتهيأ أن يعرف بما علم من تعاقب الأعراض المتضادّة عليها، و إنّما لا تنفك منها عل حدوثها إلا بمشاهدة الأجسام و إذا ثبت حدوث الأجسام فلا بدّ لها من محدث لا يشبهها، و إذا ثبت ذلك صح أنّ الفاعل للأجسام لا تحلّه الحوادث و أنه سابق لها غير مشبه لها و الحوادث غير مشبهة له.
ثم دلّ خلقه للأجسام أنه قادر حيّ كما دلّت أفعال الأجسام في الشّاهد أنّها حيّة قادرة عالمة و أنّها لو لم تكن كذلك لم تكن فاعلة فلما لم يدلّنا على أن الأجسام حية قادرة إلا أفعالها، إذ كانت حياتها و قدرتها لا تشاهد، دلّتنا أفعال اللّه تعالى أيضا على أنه حي قادر، و وجب أن يكون عالما لوجود أفعال محكمة، إذ كانت أفعال الأجسام في الشّاهد إذ كانت محكمة دلّت على أنّها عالمة و لا يدل على علمها غير أفعالها، إذ كان العلم لا يدرك و لا يشاهد.
و لما دلنا جواز الموت على الأجسام نفي الشّاهد و العجز و الجهل دلّنا ذلك على أنهم إنما كانوا أحياء قادرين بحياة و قدرة، و عالمين بعلم، و هذه الأشياء هي غيرهم فلهذا جاز زوالها عنهم و حدوث أضدادها بدلا منها فيهم. و لما كان القديم تعالى لا يجوز شي‏ء من ذلك عليه وجب بدلالة الشّاهد أنه حيّ بنفسه عالم و لما كان الجسم في الشّاهد بالتأليف يصير جسما، و نعلمه جسما لم يجز أن يكون جسما فصحّ بهذا أن التّوحيد لا يعرف إلا بدلالة الشّاهد، و كذلك طريق صدق الرّسل لأنه لا يعرف بالمشاهدة و لا ببداهة العقل، و لو عرف بذلك لاستوى النّاس جميعا فيه، و إذا كان كذلك فإنّما يعرف بالآيات المعجزات، و لا يعرف ذلك إلا باعتبار أمر الشّاهد و حمل الغائب عليه فاعلمه.
و استدلّ أبو القاسم البلخي على أنّ القديم واحد بأن قال: قد ثبت أنّ المحدثات لا بدّ لها من محدث، فمن هذا الطّريق قد بان أنّ هاهنا صانعا لا بدّ منه و لا أقل من واحد فلذلك نعلمه يقينا و أنّه واحد، و أمّا ما عداه مشكوك فيه فلا يتخطاه إلّا بدليل و هذا قريب صحيح.
انتهى الباب و اللّه محمود على ما سهّله و وفقنا له من تحقيق ما أردنا تحقيقه من شرح فضائحهم و إثارة مقابحهم، و الرّد عليهم في أصول دعاويهم و فروعها و مسؤول إيزاعنا شكر نعمته وصلة سعينا بمرضاته.
يكشنبه ۲ مهر ۱۳۹۱ ساعت ۱۷:۰۴